كنت أتصور، وهو عنوان أحد المقالات، أن الدولة ضعيفة والسلطة قوية، وأنه آن الأوان لكي نقلب المعادلة. اليوم يمكنني أن أقول إن الدولة ازدادت ضعفا، وأن السلطة، على ما يرشح من معلومات وما يتشكل من انطباعات، صارت متأزمة وربما ضعيفة. اليوم في كل ما نقرأ، وسواء أكان صحيحا أو نصف صحيح، تسريبات وتسريبات مضادة أو مناورة ومناورة مضادة أو مجرد “مسام تنفس” غير منضبطة وغير متحكم فيها، النتيجة سيان. الدولة، بما يعني المؤسسات وآليات عمل سياسية وآليات تحكيم وقواعد تنافس وتدافع منظمة وتضبطها قوانين، غائبة بشكل فظيع، والسلطة المطلقة التي توهم أنها الدولة القوية، تعيش، أقل ما يقال، اضطرابات عميقة، وهي تضع الدولة، الهشة، على حافة كارثة. لنتمعن ما هو أمامنا من تسريبات أو مضاربات أو سيناريوهات محتملة. الكثير مما نقرأ يتسم بالقليل من الجدية، على الرغم من أن تمعن سلوك السلطة، إذا ما تعلق الأمر بالرئاسيات بالذات كان على درجة من الجدية، حتى وإن عارضناه واعتبرناه غير ديمقراطي بكل تأكيد، لأنه يغيب الشعب عن معادلة الحكم والقرار، وغير صائب أحيانا كثيرة. اليوم عندما يكون المرجح الأكبر هو عهدة رابعة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، والرئيس يعيش ما يعيشه من مصاعب صحية ومن غياب ومن اقتصار ظهوره على الأمور البرتوكولية وعلى المواعيد الدستورية والقانونية الضرورية، ومع ما للرئيس من صلاحيات واسعة في دستور 2008، ومع ما يتسبب فيه ذلك من تعطيل لعمل أهم مؤسسات الدولة وهيئاتها، يطرح أشكال استغراب كثيرة، أهمها أن التفكير ينصب على تدافع مصلحي لأطراف سلطوية وليس على مصلحة دولة ووطن وشعب. وذلك يعني وجود مشكلة وأنه سيطرح مشكلات جمة. وعندما نتمعن الوضع وشكل إدارته، بغموضه وانعدام الحسم فيه وازدهار المضاربات أو المناورات، وتحولها، على ما يبدو، إلى ضرورة (!!) سياسية تكتيكية، فذلك يعني أحد أمرين: إما أنه تصرف سلطوي يجعل ذلك مجرد “لعبة” لإلهاء الناس وخلط الأوراق، أي أن كل مكونات السلطة متفقة على “حل”، وهو العهدة الرابعة في الغالب، وتجعل الكل ينتظر “المهدي” أو ينتظر أن تحدث “معجزة” سياسية، أو أن “أصحاب القرار” لم يعد لهم وجود، وأننا نعتمد تصورات عفى عنها الزمن. فقد مات من مات وضعف من كان قويا، بل وقد يكون النظام أنتج “فرانكشتاين” أكل الجزء الأكبر من نفوذ السلطة ومن مساحات وهوامش القرار عند هذا وذاك. وبالتالي، فإن السلطة القوية أضاعت سلطتها لصالح أطراف غير مسؤولة بأي صفة من الصفات، بل وهي تتدافع، ربما، على بقايا سلطة أو تقع تحت وطأة تدافع المصالح في دوائر سلطوية مختلفة. الوضع القائم، ربما صار غير قادر في الواقع على أي فعل سياسي آخر غير ذلك الذي رأيناه منذ أكثر من عشريتين. فتعديل الدستور في 2008 كان تعبيرا قويا عن ذلك ثم ما جرى في الانتخابات التشريعية ل2012 ثم المحلية في أواخر تلك السنة، أكد توجها مخيفا نحو الاستحواذ على كل شيء، وأن المال تمكن، إما بالتحالف مع السلطة أو مع عصب سلطوية أو ب«إرغامه”، بشراء الذمم، كل أطراف السلطة الأساسية، من أن يكون فاعلا هاما، وأن ما بقي لسلطة السلطة، هو هوامش قليلة. وقد تكون للمال يد قوية في قرار الرئاسيات. ومعلوم أن المال، كل المال وخاصة الفاسد منه، لن يجد وضعا أحسن له من الوضع الحالي للسلطة واستمراره. مهما يكن الأمر، فإننا نكون اليوم أمام وضع صارت فيه الدولة أضعف من أي وقت مضى، وأن السلطة أضاعت قوتها وتماسكها ولم تعد قادرة على القرار الجماعي الجاد. ضعفت أمام المصالح التي تكبر باضطراد وضعفت أمام المصالح الخارجية وحساباتها. لهذا، من الثانوي جدا التسابق إلى اختراق “أسرار السلطة” وهل الرئاسة أقوى من قيادة المؤسسة العسكرية ومن يفرض رأيه على الآخر أو يتحكم في الآخر، أم هناك اتفاق كامل بينهما، لأنه مهما كانت الحال فإنها لن تحل ما تعانيه السلطة والدولة من أمراض صارت فتاكة وتنذر بكوارث لا تحمد عقباها. طبعا يمكن أن نكرر: إن “الحل” هو التغيير والآن قبل الغد، ولكن هل هناك رغبة في التغيير وهل هناك قدرة على المبادرة بالتغيير؟ إذا تتبعنا مسار الخطاب السياسي وسلوك كل أطراف السلطة لاكتشفنا أن رغبة التغيير غائبة بل اليوم يبدو أن القدرة صارت هي الغائبة. [email protected]