عدنا إلى هذا الموضوع ليس من باب إعادة الحديث عن خطورة تداول الصناديق الخشبية لنقل وبيع الأسماك عموما، والسردين على وجه الخصوص، رغم أن الأخير ارتفع سعره في السنوات الأخير إلى درجة لم يعد فيها ”سمك الفقراء والمساكين، وذوي الدخل المحدود والضعيف”، لكن من جانبين آخرين.. يتمثل الأول في سبب عدم تطبيق الحكومة لقرار اتخذته هي نفسها، والمتضمن منع تداول واستعمال الصناديق الخشبية في نقل وبيع الأسماك، والسردين على وجه الخصوص. أما الجانب الثاني من الموضوع، فيتعلّق بالجريمة البشعة التي تمارس في حق الثروة الغابية.. قد يبدو الربط هنا ”عشوائيا” وليس هناك منطق بين موضوع الثروة البحرية السمكية والثروة الغابية، غير أن هناك رابطا بينهما، سيظهر لاحقا.. الحكومة تتحرّك.. ثم تصاب ب«الشلل” بعد سنوات من الانتظار، وبعد مثيلاتها من التقارير الصادرة عن الفاعلين في قطاع الصيد البحري، ومن جمعيات مهتمة بالبيئة، وأخرى مهتمة بالصحة العمومية، وبعد مئات التقارير التي أشّر عليها أطباء مختصون، قررت الحكومة بداية 2010 منع تداول الصناديق الخشبية، وأعطت للمهنيين فترة قاربت السنة حتى يتخلصوا من الصناديق الخشبية تلك التي أصبحت عنوانا للمرض والخطر بالنظر للترسبات التي تحتويها. مرت الفترة غير أن لا شيء تحقق. ”السردينة”، التي بلغ سعرها أعلى مستوياته على الإطلاق، منذ الاستقلال، ما تزال تباع في الصناديق الخشبية، أمام أعين كل الهيئات المعنية بالرقابة، منها مصالح وزارة التجارة وقمع الممارسات غير القانونية، ومصالح وزارة الصيد البحري المعنية مباشرة بالقرار الوزاري المشترك، ومصالح وزارة الداخلية، وأيضا وزارة الفلاحة والتنمية الريفية، وقبل كل هؤلاء المصالح الأمنية. السلطات العمومية والنوم في العسل! يتساءل مواطنون ومهتمون بالموضوع عن سبب عدم تحرك كل هذه المصالح والهيئات، رغم أن قرار المنع ساري المفعول منذ أربع سنوات، ورغم أن بيع ونقل الأسماك في الصناديق الخشبية يشكّل خطرا على صحة المستهلكين، فهي تعتبر ”وكرا” لكل أنواع الميكروبات والبكتيريا الضارة، إذ تتجمع وتتجمد فيها دماء السمك المصطاد قبل أن يعاد استغلالها في اليوم الموالي بعد تنظيفها سطحيا. أكثر من ذلك فإن تلك الصناديق غالبا ما توضع أو تخزّن في أماكن غير نظيفة، تصبح ملجأ لبعض الحيوانات، كالقطط والكلاب والفئران، قبل أن يعاد استغلالها لنقل وبيع الأسماك، مع ما يمثل ذلك من خطر حقيقي على صحة المواطن. وجهان ل.. جريمة واحدة أما الموضوع الثاني في هذا الملف فيتعلق باستنزاف الثروة الغابية بمواصلة استعمال الصناديق الخشبية في بيع ونقل الأسماك، رغم أن قرار منع ذلك صادر عن الحكومة منذ 4 سنوات. وفي هذا الإطار كشفت مصادر على اطّلاع واسع بعالم ملحقات الصيد البحري أن هناك ”مافيا” حقيقية تمكنت من فرض سيطرتها على نشاط إنتاج الصناديق الخشبية، لعل أهمها تتواجد بوسط البلاد. وقالت المصادر ذاتها إن هؤلاء ”المجرمين” يستنزفون أشجار الصنوبر والكاليتوس على وجه الخصوص، وأنواع أخرى من الأشجار، ويقومون بقطعها دون الحصول على ترخيص من الهيئات الوصية على قطاع الغابات ولا من الجماعات المحلية، على أن يبيعوها لأصحاب وحدات إنتاج الصناديق الخشبية. وتساءلت مصادرنا المهتمة بقطاع البيئة والغابات عن سبب عدم تحرك المصالح الأمنية، رغم أن هناك شاحنات مقطورة تقطع أسبوعيا ما لا يقل عن 600 كلم من ولاية بومرداس إلى ولاية عنابة شرقا، محمّلة بما لا يقل عن 6 آلاف صندوق خشبي خاص بالأسماك، ولا يحوز أصحاب الشاحنات ولا صاحب البضاعة تلك على أي فاتورة أو وثيقة تثبت شرعية وقانونية نشاطه، ومع ذلك تصل الشاحنة إلى مقصدها وتفرّغ حمولتها وتعود من حيث أتت ولا أحد يوقفها في الطريق ليسأل عن هوية المنتج. ما بات يطرح أكثر من علامة استفهام على الهيئات الوصية الإجابة عنها. رئيس لجنة الصيد البحري باتحاد التجار حسين بلوط ”مافيا تستنزف ثروات البلد ولا أحد يتحرك” الثروة السمكية.. كنز يسير باتجاه الانقراض حمّل رئيس لجنة الصيد البحري، والناطق الرسمي لاتحاد التجار والحرفيين الجزائريين، بلوط حسين، في حديث مع ”الخبر”، وزارتي التجارة والصيد البحري مسؤولية عدم تعميم تطبيق القانون الذي يمنع تسويق السمك في الصناديق الخشبية على كل المسمكات في 31 ميناء موزع عبر 13 ولاية ساحلية، مشيرا إلى أن اقتصار تطبيق هذا الإجراء على مسمكة العاصمة فقط يعدا خرقا للقانون المذكور وخطرا على صحة المواطن. وأضاف المتحدث أن الاستمرار في عدم تعميم تطبيق القانون يعتبر تجاوزا في حق المواطن وسلامته الصحية، خصوصا أن الصناديق الخشبية تبقى مبعثا للأمراض لأنها تمتص الدم الذي يخلّفه السمك، بالإضافة إلى أنها تظل في الشارع كمرتع للقطط والكلاب والحشرات، ومن ثم إعادة استعمالها من جديد دون غسلها ما يعدّ خطرا على الصحة العمومية. غابات تُعرّى لصنع الصناديق الخشبية من جهة أخرى، دقّ حسين بلوط ناقوس الخطر بشأن النهب المبرمج الذي تتعرض له الثروة الغابية، بعدما فرضت مافيا قطع أشجار منطقها، في ظل غياب رقابة صارمة من قِبل حراس الغابات، مضيفا أن هناك شاحنات تحمل الواحدة منها 6000 صندوق خشبي تقطع آلاف الكيلوميترات وتمر على الحواجز الأمنية في الطرقات دون أن يتم مساءلتها وحجز حمولتها، كونها لا تخضع لأي نشاط قانوني ومحظروة بموجب القرار الوزاري المشترك المؤرخ بتاريخ 28 أفريل 2010 المتضمن منع الصناديق الخشبية المستعملة في تسويق الأسماك. وكشف بلوط أن جيراننا في كل من تونس والمغرب وموريتانيا وليبيا تخلوا منذ مدة عن الصناديق الخشبية واستبدلوها بالبلاستيكية، رغم أنهم لا يصدّرون هذه المادة (البلاستيك) عكس بلدنا المصدّر لها، وقد أدى ذلك إلى استنزاف الثروة الغابية خاصة، ويهدد أشجار الكاليتوس والصنوبر، ليتساءل ”أين هو دور الوزارات المعنية؟”. الانقراض مصير السردين.. قريبا وأبدى بلوط استياء كبيرا من الصيد العشوائي للسردين واستهداف الصيادين السمك الذي لا يزيد طوله على 11 سنتمترا، معتبرا إياها جريمة في حق الثورة السمكية، لأنها تحمل في بطنها أكثر من مليون بيضة، قائلا إن اصطياد السمك الذي يكون في مرحلة التكاثر يعني فقدان ملايين من الأسماك. وقال المتحدث إنه في الوقت الذي يمنع الأوروبيون صيد الأسماك التي يقل طولها عن 14 سنتمترا، لاحتمال كونها في مرحلة توالد، وحفاظا على ثروتهم السمكية، يستهدف الصيادون الجزائريين أسراب السردين برمّتها دون الأخذ في الحسبان مرحلة التكاثر. وأضاف الناطق الرسمي لاتحاد التجار والحرفيين الجزائريين أن استمرار صيد الأسماك الصغيرة من شأنه أن يؤثر على المخزون والاحتياطي الوطني للسردين، الآيل إلى الانقراض في حال عدم وضع حد لهذه الممارسات اللامسؤولة، التي تحرم الأجيال القادمة من حقها في الثروات البحرية. وجدد رئيس لجنة الصيد البحري باتحاد التجار والحرفيين مطلبه الرامي بضرورة تكثيف الرقابة على المصايد والموانئ، التي سقطت في قبضة بارونات تجارة السمك الذين أصبحوا يتصرفون في الأسعار مثلما يشاءون. جمعية ”نجوم البحر” لحماية البيئة البحرية ”صعوبة تطبيق القانون الملزم بصيد السردين” اعتبر سعيد رمضان، رئيس جمعية ”نجوم البحر” المهتمة بحماية البيئة البحرية والكائنات المائية من الانقراض، أن موضوع السردين قديم يتجدد في كل مرة، لعدم وجود قانون صارم ينهي هذه المسألة نهائيا، مشيرا إلى أنه ليس بإمكان الصيادين أن يستثنوا السردين الصغير أثناء عملية سحب الشباك. وتطرق المصدر إلى أن الكثير من الصيادين الجزائريين يتبعون الطريقة التقليدية من خلال رمي الشباك وسحبها بكل ما تأتي به من صيد، وهو ما يجعل انتقاء الأسماك والاكتفاء بتلك التي يفوق طولها 11 سنتمترا أمرا صعب التطبيق. واقترح رئيس الجمعية، في معرض كلامه، عدة حلول بإمكانها الحد من ظاهرة استنزاف الثروة السمكية على السواحل الجزائرية، مشيرا إلى تحديد كمية الصيد ووضع برنامج لخروج الصيادين، يراعي الكمية التي تغطي كل مصاريف رحلة الصيد وتضمن له دخلا محترما، مذكرا بصعوبة تطبيق القانون الذي يلزم بمنع صيد السردين أقل من 11 سنتمترا، حيث إن الصياد لا يستطيع اختيار وانتقاء الأسماك الصغيرة أثناء سحب الشباك أو أثناء تحديد مواقع أسراب السردين.