تعتبر ظاهرة “القطيع” من بين الطرق التقليدية والطقوس المتوارثة في العلاج والمداواة التي لا تزال تحظى بشعبية كبيرة في المجتمع الجزائري. الملاحظ أن هذه الأخيرة عرفت انتشارا منذ سنوات وقبولا من قبل مختلف الفئات الأجيال سواء القديمة أو الجديدة ومن كلا الجنسين حتى المتعلمين والمثقفين منهم، وهو ما جعل الجدل يحوم حول هذه الظاهرة التي فرضت نفسها أمام تقدم الطب، وطرحت تساؤلات حول تصنيفها طبيا هل هي طب بديل، طب قديم، طب نبوي أم شعوذة؟ وكيف يمكن تفسيرها علميا؟ “القطيع” وحسب تفسير العديد من الأشخاص العارفين بالأمر والذين تحدثت معهم “الخبر”، هو عبارة عن عادة مورست منذ القديم تستعمل في مداواة أمراض محددة ومنسوبة لهذا المجال فقط، كقطع مرض يدعى بالعامية “جداهم”، والفيروس الكبدي “اليرقان”، عرق لاسا، ومرض الصرع والخلعة، ثم تطور إلى أشياء لها علاقة ببعض المعتقدات كالعين و “التابعة”، وأشخاص معينون فقط يمكنهم ممارستها على أساس أنها تنتقل عن طريق الوراثة. وقد كانت هذه الأخيرة تُمارس في الأحياء القديمة والزوايا، ويستقبل البعضُ المرضى في بيوتهم، ويتم أحيانا اللجوء إلى طرق غريبة في المعالجة، فيكلف الطفل المصاب برداء أسود أو إلباسه اللون الأحمر وغيرها من الأمور، كما يخضعون للتطبيب عن طريق مواد طبيعية كالبصل والقطران، مع تعهد الأولياء بمراقبة أبنائهم وعدم تناول الأدوية أو التقيد بالوصفات الطبية، لأنه حسبهم يفقدهم نجاعة العلاج. السيدة نصيرة البالغة من العمر 44 سنة ربة بيت، اعتبرت “القطيع” طقسا من الطقوس العلاجية يمارسها أشخاص لديهم القدرة على الربط بين أمور ميتافيزيقية والتداوي بالأعشاب، وهو علم متصل بالتوقيت والتنجيم ولا يمت بأي صلة للشعوذة، حيث يعتمد على قناعة المريض بالشفاء وفعالية بعض الأعشاب العلاجية النافعة، مع بعض الآيات القرآنية والدعاء والتضرع إلى الله بالشفاء، “وبالنسبة لي شخصيا فلم أزر أبدا شخصا بهذه الميزات، ولم أحضر يوما طقسا من طقوس المداواة بهذه التقنية”. السيدة آمال عاملة وأم لطفلين، قالت إن الظاهرة معروفة لدى جميع الفئات في المجتمع وتكون في بعض الحالات نافعة، كما يشهد لها من قبل بعض الأطباء على غرار مرض “الجدة” لدى الأطفال، فهو معروف علميا ويثبت الشفاء منه بعد استعمال بعض الأعشاب والوسائل التقليدية، “وأنا شخصيا زرت البعض منهم لمداواة ابنتي زهرة لدى عجوز معروفة ولديها خبرة، بعدما زرت عدة أطباء”. أما السيدة كنزة مهندس دولة في الإعلام الآلي ومتزوجة حديثا، قالت إنها وقفت على العديد من الحالات خاصة عند الأطفال عجز الأطباء عن معالجتها، فلجأ أولياؤهم إلى نساء مسنات أو رجال على حد السواء لممارسة عملية “القطيع” كاليرقان “الصفاير”، قائلة “ابن خالتي أخذوه إلى أحد الممارسين بعد أن مكث مدة كبيرة في المستشفى، والآن هو في صحة جيدة”، وهو نفس ما صرح به حمزة من منطقة عين مليلة صاحب وكالة لكراء السيارات، قال إنه عانى من نوبات من الدوار لمدة 17 سنة وقد شفي منها في دقيقتين.
السيدة بومزبر زكية تمارس “القطيع” منذ أزيد من 40 سنة “القطيع ليس شعوذة بل هبة من الله” توجهنا إلى منزل الحاجة بومزبر زكية البالغة من العمر 75 سنة، والكائن بالحي الشعبي القماص ببلدية قسنطينة، ذائعة الصيت ومعروفة جدا، ويصفها البعض بالحكيمة، دخلنا إلى الغرفة المخصصة لممارسة “القطيع” على المرضى الوافدين إليها، وهي عبارة عن حجرة صغيرة بسيطة، استقبلتنا هناك السيدة بومزبر التي أدت مناسك العمرة مؤخرا، حيث تحدثنا معها عن سر هذه الظاهرة وعلاقتها بالمجتمع الجزائري. السيدة زكية قالت إنها تنتمي إلى عائلة تمارس هذا العمل منذ قرون وتوارثته أبا عن جد، وقالت “هي هبة من الله منحها للعائلة، فيأتي الشفاء على أيدينا وفق منهاج الله، ولا نمارس أي عمل دون ذكر الله أو التوكل عليه”، مسترسلة في سياق حديثها بأن القطيع يرجع لعائلات معينة فقط تستطيع القيام به دون أخرى، وأضافت “ليس له علاقة بالشعوذة أو أمور أخرى خارجة عن الدين، هي منبثقة من علم الأعشاب، ووفق معايير محددة لا يجب الحياد عنها أثناء ممارستها، وقد كان جدي الأكبر يداوي بواسطة كتاب خطه هو، ويستخلص منه وصفات أساسها كله من العسل الخالص”. السيدة زكية صرحت أنها تداوي العديد من الأمراض التي لم يستطع الطب مداواتها، احترفتها منذ 40 سنة أثناء مرافقتها لجدتها من أمها التي كان يعرفها ويقصدها الجميع من كل المشاتي ومن مختلف الولايات، حيث كانت تساعدها قبل أن تبدأ في ممارستها في سن 14 سنة وعلى مراحل، قبل أن تحمل على عاتقها ما تركته جدتها، ومن بين الأمراض التي تداويها: الصفاير، الشقيقة، الحل، الإكزيما، عرق النسا، وحتى العقم وتأخر الولادة. وأكدت نفس المتحدثة أن الحالة الواحدة تستلزم مدة علاج 7 أيام، وساعات طويلة للمداواة تستقبلها يومي الجمعة والسبت فقط بقرابة 30 مريضا في اليوم الواحد يأتونها من كل الولايات، ويقصدونها حتى في ساعات متأخرة من الليل، خاصة للمصابين بداء السكرى والضغط الدموي، مؤكدة “يأتونني في كراسي متحركة وفي آخر جلسة يخرجون مشيا على أقدامهم، وهناك حالات ظلت تداوي لأربع سنوات تمكنت من شفائها، ومعنى كلمة القطيع ذهاب المرض دون رجعة”، كاشفة أن الكثير من الأطباء يقصدونها ويطلبها البعض منهم للمستشفى. وأضافت أنها لا تشترط مبلغا ماليا معينا في العلاج، والمبلغ الرمزي الذي يقدم لها هو من أجل توفير مصاريف الأعشاب والعلاج، كون هذه الهبة من أجل العلاج لوجه الله وهي صدقة جارية، كما تحدثت عن حالات لا يمكن علاجها وتستلزم التدخل الطبي ترفض التدخل فيها، خاصة للذين حُولوا على العمليات الجراحية دون التوقف عن تناول الدواء.
الدكتور عمار محساس مختص في الأمراض الصدرية “للقطيع مضاعفات تظهر مع الوقت” حذر الأستاذ الدكتور عمار محساس مختص في الأمراض الصدرية من اللجوء إلى هذا النوع من العلاج، حيث قال إن ممارسته للطب مدة 40 سنة لم تجعله يقف على حالة واحدة كان فيها العلاج بالقطع ناجعا، ولا يمكن توثيقه أو الاعتراف به علميا. وقال الدكتور إن الحقيقة التي يجب النظر إليها هي أن هذه الأمور موجودة في مجتمعنا، ولفهم هذا العلاج ومحاولة التغيير منه يجب أن نرى الوسائل التي تستعمل في هذه العملية، حيث يطرح القطيع في بلادنا أسئلة كثيرة من خلال الطرق التي يستعملها كالضغط أو كما يسمى بالمصطلح العامي “التشبير” واستعمال المنجل وآلات حادة على غرار الشفرة والكي بالنار، وحتى عن طريق الريق، متجاهلين بعض الأمراض المزمنة التي يحملها مستقبلا، حيث تحدث في بعض الحالات مضاعفات وتستلزم عمليات جراحية استعجاليه، وهو أمر معمول به في الكثير من الدول والمناطق كالفلبين والملاوي ودول إفريقية وفرنسا، حيث توجد مكاتب لهذه الأمور التي اعتبرها شعوذة. وأشار ذات المتحدث إلى أنه حتى إن كان العلاج عن طريق التداوي بالأعشاب، فهو خطير في حال عدم احترام الجرعات ونوعية الخلطات وفترة استعمالها، لأن العلاج مقترن بنوعية العشبة ووقت قطفها والجزء الذي يجب أن نستعمله نمنها، فعدم احترام المعايير المحددة قادر أن يضر أكثر خاصة بالنسبة لمرضى السكري والضغط الدموي. وأضاف أن الطب الحديث وبالوسائل التقنية الجديدة رجع إلى التداوي بالأعشاب، وهو ما نجده الآن في العديد من الدول المتطورة في المجال كالصين وفرنسا، كما أن هناك تشخيصا ببعض التقنيات المغناطيسية، وهو الأمر الذي يقوم به بعض المعالجين الذي يداوون مرضاهم مغناطيسيا ووجدوا مكانة في الطب الحديث، إلا أنهم درسوا هذه الطرق من الجانب الأكاديمي قائلا “يجب أن تخضع الخلطات التي يستخدمها هؤلاء الأشخاص في بلادنا للتحليل المخبري والكشف إذا كان لديهم موهبة حقيقية في التداوي بالأعشاب”. واسترسل “حين نقول هناك معجزات تحدث أثناء المعالجة بهذه الطرق، فهناك نقطة استفهام لأن المريض يلجأ إلى هذا النوع بعد أن ييأس من الطب الحديث ويفقد الأمل من الشفاء وتكون لديه قناعة بأن هذا العلاج سيكون أكثر نفعا، وتكون النتيجة إيجابية بعد أسبوع أو 10 أيام من العلاج، وهو ما يجعلنا نطرح التساؤلات: هل الشفاء كان نتيجة الطب الحديث أم بسبب القطع؟ أمام جهل المريض بفعالية الأدوية التي يتناولها والتي تتطلب أسابيع وأشهر حتى تعطي نتيجتها. وأوضح الدكتور أنه يوجد بعض الأمراض تبدأ وتنتهي تلقائيا، فإذا كان العلاج عن طريق الطب الحديث فسيكون الشفاء منه في وقت أقصر وبأضرار أخف وبعدوى أقل، على غرار مرض الفيروس الكبدي “أ” الذي لا يزيد عمره في معظم الحالات عن 10 أيام، حيث ينسب الشفاء إلى القاطع ولا ننسبها إلى أمور فيزيولوجية طبيعية.
الدكتورة لامية نوري “القطيع” مجرد عادة لا تشفي الأمراض المستعصية ترى الدكتورة لامية نوري، طبيبة بمصلحة التدخل الطبي الاستعجالي بمستشفى بن باديس في قسنطينة، أن عملية “القطيع” ليس لها تفسير علمي، وهي عادة ألفتها عليها العائلات الجزائرية، كانت تستعمل في وقت لم يكن الطب فيه متطورا إلى جانب قلة الأطباء، كما كانت الأسر تعاني ظروفا مالية صعبة لا تمكنها من زيارة الطبيب المختص. وأشارت المتحدثة إلى أن للحالة النفسية دورا كبيرا في تحديد هذه الحالات، وترى أن القطيع شفاء بالنسبة لها، وهو ما يجعلها تتماثل للشفاء، كما أن هذا الأخير لا يمكنه أن يداوي بعض الأمراض المستعصية كالسكري والضغط الدموي والسرطان، وحتى الفيروس الكبدي المتقدم من الصنف الثاني والثالث يعجز عن مداومته، حتى وإن تمكن الطب النبوي من النظر فيها والفصل فيها منذ حقب.