باشرت الولايات المتّحدة منذ فترة إعادة تشكيل الشّرق الأوسط. و النتيجة اليوم هي أن المنطقة عينها و موقفنا تجاهها في حالة كارثية. و يبدو أن جزءًا كبيراً ممّا حدث صار لا رجعة فيه. وأودّ، في الوقت القصير المُخصّص لي، التحدّث عن ديناميكيات المنطقة في محاولة منّي لاستنباط اقتراحات حول ما يمكن القيام به، والذي من المحتمل أن لا يحصل. في البداية، ينبغي أن نكون صادقين وأن نتمتّع بجرأة الاعتراف بأنّ شؤون الشّرق الأوسط في حالة يُرثى لها، في مصر، والعراق، و إسرائيل ، والأردن، ولبنان، وفلسطين، وسوريا، وإيران، والخليج الفارسي، وشبه الجزيرة العربية، و أفغانستان. وهذا ليس نتاجاً لديناميكيات المنطقة الداخلية فحسب، بل أيضاً لعدم قدرتنا على التّفكير والتصرّف بطريقة إستراتيجية. لقد تفاعلنا مع نهاية نظام الثّنائية القطبيّة الذي طبع فترة الحرب الباردة بمزيج من الإنكار و التّقلّب و التذبذب الإستراتيجي. لقد ساهمت افتراضات الولايات المتّحدة الخاطئة و أهدافها غير الواقعية إلى حدّ كبير في خلق الفوضى السّائدة في الشّرق الأوسط. و لا نفشي سرّاً لو قلنا إنّ السّياسة الأميركيّة سياسة همجيّة ومُختلّة وظيفياً. إذ نجد أنّ النّخبة في مجال السّياسة الخارجيّة تعيش في فقاعة إعلامية، و ترجح الرّوايات على التّحليل السّليم للأحداث، و تخلط العقوبات و التلميحات العسكريّة مع المواقف الدّبلوماسية، وتتصوّر أنّ الطّريقة الفضلى للتّعاطي مع الأجانب الحاقدين تتمثّل في قتلهم مع أصدقائهم وعائلاتهم ، بالاستعانة بآليات عسكرية جويّة.
لدينا قادة عاجزون عن ممارسة القيادة و هيئة تشريعية غير قادرة على التّشريع
لدينا قادة عاجزون عن ممارسة القيادة و هيئة تشريعية غير قادرة على التّشريع. باختصار، لدينا حكومة لا تستطيع اتّخاذ قرارات مُناسبة و تمويل تنفيذها و إيجاد حلفاء لتأييدها أَو انجاحها. ما دمنا لم نرتب أمورنا الداخليّة، فكل من يتطلع الى زعامة لأمريكا في الخارج سيصاب بخيبة الأمل. صرّح الرئيس أوباما في " وست بوينت " بما يلي: " لدينا جيش لا نظير له "، ثم أضاف: " لا يُمكن أن يكون التّدخل العسكريّ المكوّن الأوحد و لا حتي الرّئيسي لزعامتنا. فامتلاكنا أفضل مطرقة لا يعني بالضّرورة أنّ كلّ مشكلة يجب علينا اعتبارها مسمارا". وهذا صحيح. لقد أثبتت التجربة الى حد بعيد صواب موقفنا لما ترددنا في استعمال القوة. إذ كان الهدف من ضربات مطرقتنا في الشرق الأوسط إبداء مدى قوتنا و جبروتنا. لكن هذه السياسة لم تؤت ثمارها، بل على العكس من ذلك أبانت عن حدود هذه القوة و عوض أن تساهم التدخلات العسكريّة في تحسين أوضاع المنطقة من حيث الاستقرار و السياسات و الأفاق المستقبليّة، زادت طينها بلة. لم تسمح لنا براعتنا العسكريّة الفريدة من نوعها بفرض إرادتنا في غرب أسيا و شمال إفريقيا و أوروبا الشرقية أو في أي مكان أخر. وحصيلة عملياتنا السرية الهادفة إلى إيجاد حلول للمشاكل السياسية في جميع هذه المناطق لم تكن في حال أفضل. من هنا، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو : ما هي البدائل لسياسة المطرقة العسكريّة، و الوسائل ذات الصلة في فن الحكومة، المتاحة اليوم لدى رئاسة الولاياتالمتحدة ؟ و الإجابة البديهية لهكذا سؤال هي: استعمال المفك السياسي للدبلوماسية و وسائل نفوذ أخرى توفرها القوة الناعمة مثل الإعانات و المنح المختلفة. لابد أن هناك سببا في كون وزارة الخارجيّة أصغر، لا بل أضعف، دائرة وزارية في حكومتنا. و نادرا ما تلجأ الولايات المتّحدة إلى الدبلوماسية من اجل تسوية كبريات المشاكل مع الدّول الأخرى.
المصارعون يتفوقون دائما على الدبلوماسيين
المصارعون يتفوقون دائما على الدبلوماسيين. ذلك لأنهم يقدمون العروض المثيرة و الشيقة للناس. حَتَّى لو لم تكن التدابير القسرية التي تتخذ عادة، كفرض العقوبات و القصف، ناجعة فإنها أكثر إرضاء للمشاعر من العمل المضني للدبلوماسية. نزعتنا العسكرية الفطرية لم تجنبنا الإفلاس في سياستنا. إفلاس ليس بمقدور دبلوماسيتنا التقليل من عواقبه السلبية مادامت تعاني من ضعف اعتماداتها الماليّة، عكس ما هو الحال عليه بالنسبة للعسكريين، و عدم الاحترافية الذي ينتجه نظام المحاباة السائد في مؤسستها، بالإضافة إلى فشل اللقاءات و الإتصالات المرتجلة في إرساء علاقات متميزة بين كُتاب الدولة الأمريكيين و القادة السياسيين في الدّول الأجنبيّة. و نتيجة ذلك كله أنه من الصعب التّفكير بأي مشروع أمريكي في الشرقِ الأوسط لم يَنتَه إلى الفشل الذريع أو لم يصل إلى طريق مسدود ، بما في ذلك سياستنا المتعلّقة بإسرائيل و فلسطين، و بترقية الديمقراطيّة، و بعلاقتنا مع مصر، و بالإرهاب الاسلاموي، و بالاستقرار في الهلال الخصيب و بلاد الشام و إيران و الخليج. إسمحوا لي أن أعرض بعجالة و اختصار إلى هذه القائمة من ملفّات منطقة الشرقِ الأوسط. في شهر أفريل المنصرم، منيت الجهود التي بذلناها على مدى أربعة عقود بغية الوصول إلى تفاهمات من شأنها ضمان قبول إقامة دولة يهودية في الشرقِ الأوسط بفشل بشكل مخز. و في المرحلة الأخيرة من الكوميديا التراجيدية لما سُمي بعملية السّلام راحت الولايات المتّحدة تتفاوض مع إسرائيل حول شروط الاستسلام الفلسطيني بدل التّفاوض مع الفلسطينيين بشأن تقرير مصيرهم. و لم تلعب بذلك الولايات المتّحدة الامريكية دور الوسيط الذي كان منوطا بها. جهود الولايات المتّحدة لإحلال سلام يخدم إسرائيل لم تمت فحسب، بل و تعفّنت جثتها. إسرائيل لم تكُن تؤمن بها، فقتلتها، فلندعها ترقد بسلام. منذ البداية، استخدمت إسرائيل عمليّة السّلام كأداة لصرف انتباه العالم بينما كانت تعمل على تكريس أمر واقع على الأرض في صورة مستوطنات غير شرعيّة. لقد جعل التوسع الإسرائيلي و السياسات اللصيقة به من إقامة تعايش سلمي بين إسرائيل و الفلسطينيين و بالتالي بين إسرائيل و جيرانها العرب أمرا مستحيلا. الولاياتالمتحدة هي التي خلقت العوامل الأخلاقية السيئة التي أدت بإسرائيل في نهاية المطاف إلى وضع نفسها في موقف لا تحسد عليه. يبدو أن أربعين سنة من النشاط الدبلوماسي الأمريكي الاحادي الهادف إلى تحقيق قبول لإسرائيل على المستويين الجهوي و الدولي قد أثمرت نتائج عكسية تماما و زادت من عزلة الدولة اليهودية و من سخط المجتمع الدولي عليها.
يروق للأمريكيين إعطاء أسس أخلاقية لسياساتهم
هذا الوضع سيحتم علينا العمل على حماية إسرائيل في إطار منظمة الأمم المتّحدة في الوقت الذي تتسبّب فيه سوء معاملة إسرائيل لساكنتها العربيّة الأسيرة و اعتداءاتها المتقطعة عليها في استكمال نزع الشرعيّة من إسرائيل و تهميشها دولياً. سندفع ثمنا باهضا بسبب سياسة كهذه، إن على المستوى السياسي في الشرقِ الأوسط أو، على الأرجح، في شكل تصاعد الإرهاب الذي يستهدف الأمريكيين في أمريكا و في الخارج. مثل هذا التصرّف من قبلنا قد يُرضي شعورنا بالشرف و لكنّه في الواقع مساعدة على الإنتحار أكثر منه إستراتيجية لضمان البقاء لدولة إسرائيل و الاستمرارية لموقفنا تجاه الشرقِ الأوسط. يروق للأمريكيين إعطاء أسس أخلاقية لسياساتهم. لكن جيولوجيا الشرقِ الأوسط المعقّدة لم تسمح بمثل هكذا تأسيس، سواء بالنّسبة لإسرائيل أو فيما تعلّق بملفات أخرى. و لنأخذ مثلاً نوايانا المُعلنة بخصوص ترقية الديمقراطيّة. على أرض الواقع لم تبذل الولايات المتّحدة جهوداً حقيقيّة إلا في البلدان الّتي احتلتها كالعراق و أفغانستان، أو في تلك الّتي تحتقرها كفلسطين و إيران و سوريا. و أما باقي البلدان فنتركها لحكامها المتوارثين و للدكتاتوريين وللجنرالات و للأوغاد، و نكتفي بإصدار قليل من الانتقادات. و عندما تأتي الانتخابات الديمقراطيّة بحكومات لا نتَّفق معها نحن أو حلفائنا، تسعى الولايات المتّحدة جاهدة إلى الإطاحة بها و الاستعاضة عنها بحكّام طغاة أكثر ودا. إذا كانت الديمقراطيّة الغاية و الرسالة، فعلينا الاعتراف بأن أمريكا ليست النبيّ حاليًا. لا شَك أن إرادتنا في تخليص المنطقة من الديمقراطيين الَذِين يحرجوننا قد أرضت إسرائيل و أصدقائنا في الخليج. و لكنّها في الوقت نفسه ألحقت ضررا بليغا بجدّية مزاعمنا بخصوص القيم التي لم نكف عن المناداة بها. هذه السياسة لم تثمر في إحداث أي ديمقراطيّة في المنطقة، بل أفشلت بعض التجارب الواعدة قبل أن تتوفّر لها أسباب النجاح في التجذُّر. مصر هي خير مثال على ذلك. فبعدما أثارت أملا في صحوة ديمقراطيّة عربيّة و انتخبت حكومة اسلاموية عديمة الكفاءة، تحوّلت اليوم إلى دكتاتورية عسكرية غارقة في أزمة اقتصادية حادّة. و هي لا تتميّز عن الأنظمة الاستبدادية الأخرى إلا بالمهزلة التي تطبع محاولتها الظهور بمظهر دولة قانون. و ليس بوسعنا القيام بالشيء الكثير حيال ذلك. المخاوف الأمريكية بشأن أمن إسرائيل تفرض علينا دعم مصر مهما كان شكل حكومتها أو الطريقة الّتي تصل بها إلى السُلطة، في الوقت الذي يلتزم فيه شركاء الولايات المتّحدة العرب في الخليج بدعم الدكتاتورية العسكرية و قمع الاسلاموية في هذا البلد. من الصعب التّفكير بمكان في العالم، غير مصر، تبرز فيه بمثل هذا الوضوح تناقضات أمريكا وتخبطها بين دفاعها عن القيم و المثل، و احترامها لالتزاماتها تجاه الدّول العميلة، و سعيها إلى منع انتشار الإرهاب. إنه لمن المغري الإستنتاج بأنه إذا كنا نريد فعلاً أن نكون واقعيين عنيدين، فعلينا أن نتجاوز النفاق الممل المتعلّق بالديمقراطيّة و حقوق الإنسان و نتصرف بشكل مختلف. و هذا ما نريد على ما يبدو. وإلا فكيف نُفسر اقتراح الرئيس إقامة شراكات متعدّدة مع قوى الأمن في المنطقة لاستئصال الإرهاب الاسلاموي ؟ إن مصر اليوم هي المثال الأبرز للتعاون الإقليمي في هذا المجال. هل يوجد ببالنا نموذج غيره ؟ ليس هذا بالأكيد. غير أن مصر تدفع، بعدم تركها أي متنَفَّس للمعارضة السلمية، على الأقل، جزءًا من أغلبيّة شعبها المؤمن إلى اختيار نهج العنف السياسي. و هو الأمر الَّذِي قد يحوّل البلد العربي الأكثر اكتظاظاً بالسكان إلى أكبر و أخظر حقل تدريب في العالم للإرهابيين الإسلامويين. صحيح، بالطّبع، أن مصر ليست الحاضنة الوحيدة لأعداء أمريكا. لقد ذهب الأمريكيون إلى الخارج بحثا عن وحوش يقتلونهم. وعثرنا عليهم. ثم خلقنا وحوشا جددًا. البعض منهم تتبع خطانا ووصل إلينا. و البعض الآخر هو في الطّريق إلينا. لهذا السّبب، أمريكا في طور التحوّل إلى ثكنة كبيرة. البرامج التي وضعناها من أجل محاربة الإرهاب صائبة من حيث نواياها، لكنها تغذّي، في كل مكان، الرغبة في الانتقام من الولايات المتّحدة. لقد ساعدنا كثيراً في إنتشار الإرهاب الاسلاموي لمّا قمنا باجتياح العراق. كان هدفنا المُعلن الحؤول دون وقوع أسلحة دمار شامل بين أيدي إرهابيين لم يكونوا موجودين في العراق آنذاك. و بعد إزاحة حكومة قائمة، اعتقدنا أنه بإمكاننا كذلك تحقيق نوع من الدمقرطة السريعة في هذا البلد. و هكذا استبدلنا دكتاتورية لائيكية باستبداد عقائدي. هذه العمليّة لم تفشل فحسب، بل أشعلت حربا دينية تمخض عنها الجهادستان الواقع بين سوريا و العراق. ما فعلناه بالعراق أدى إلى تقسيم هذا البلد إلى ثلاث مناطق. و الآن، يبدو، عمليا، أننا نسعى جاهدين إلى تفكيك بلدان الشام. و إسرائيل ماضية في قضم ما تبقّى من فلسطين، بينما تقوم التنظيمات الجهادية بعملية تشريح لسوريا و العراق. بدعم منّا، سوريا تحترق جارة معها تفحم لبنان وكلسنة الأردن. والأكراد يبتعدون باستمرار عن هياكل الدّولة العراقيّة الموجودة. إن النّظام السُوري يثير الاشمئزاز والنفور، و لكننا نخشى أنه في حالة سقوطه، و هو ما نتمناه، أن يحل محله أشخاص مخيفون أكثر. عمليات القصف الجوي لن تؤدّي بمفردها إلى إسقاط النّظام. وعليه، طفقنا بفعل العسكروية الانتصارية نقترح تسليح قوة خرافية مُشكلة من معارضين سوريين معتدلين . و نتوقع من " تحالف الفاتورة" هذا أن يحارب كلاً من الحكومة السوريّة و معارضيها الأكثر فاعلية في الميدان، و أن يمتنع في نفس الوقت عن التّعاون مع هذه المعارضة و عن تحويل الأسلحة إليها.
زعزعة سوريا تزيد بالتأكيد من حدّة الضغط الممارس على إيران
مثل هذا المُخطط ضرب من الخيال يهدف إلى صنع السّلام داخل الكنغرس الأمريكي ما دام غير قادر على إحلاله في سوريا. أما إذا كان هدفنا إبقاء هذا البلد مشتعلا، فإن هذا المُخطط مقبول. و لعلّ هذا ما نريد حقاً. على كل حال، تمثّل الفوضى في سوريا نزيفا بالنّسبة لإيران التي نعتبرها عدوّنا الرّئيسي في المنطقة. زعزعة سوريا تزيد بالتأكيد من حدّة الضغط الممارس على إيران قصد حملها على التخلّي عن برنامجها لتطوير أسلحة نووية. وهي الأسلحة الّتي ما فتئت وكالتا الاستخبارات في الولايات المتّحدة و إسرائيل تؤكّد على عدم وجودها و الّتي ظلّ القادة الإيرانيون ينفون أي نيّة في امتلاكها باعتبارها محرّمة شرعاً في الإسلام. تهديداتنا المتكرّرة بقصف إيران تبدو وكأنّها إختبار شيطاني جدّ فعّال لمدى نزاهة قادتها الأخلاقية. لو أننا وفّرنا لهم كلّ الأسباب والحجج الممكن تصوُّرها لامتلاكهم قوّة ردع نووية، هل سيمتنعون مع ذلك عن تصنيعها ؟ إستنادا إلى أخبار يوم الجمعة، من المؤكّد أن الأمر سيكون كذلك، على الأقل خلال الأربعة أشهر القادمة. هذه الحال تدفعني إلى التطرّق إلى نقطة أساسية تبيّن مدى التعقيد الَّذِي يميّز السياسة. لقد قلنا مرارا للناس في الشرقِ الأوسط: عليكم أن تختاروا بين أن تكونوا معنا أو ضدّنا. و الظاهر أنهم غير جديرين بالثقة إلى حد بعيد ( ضحك في القاعة). فالملالي في إيران يقفون ضدّنا بخصوص سوريا و لبنان و البحرين و لكنّهم يساندوننا في أفغانستان و العراق. نظام الأسد و حزب الله يعارضاننا في سوريا و لبنان، و لكنهما معنا بشأن العراق. الجهاديون السلفيون يدعموننا في سوريا و يقفون في وجهنا في العراق و غيره. حكومة إسرائيل بجانبنا فيما تعلّق بإيران بينما تختلف معنا بخصوص تعطيل تطبيق حَق تقرير مصير الفلسطينيين و تفعيله بالنّسبة للأكراد. المملكة العربيّة السعوديّة تدعم موقفنا تجاه إيران و سوريا و تعارضه بالنّسبة للعراق. كانت معنا، ثم ضدّنا، ثم معنا مجددا بخصوص مصر (ضحك في القاعة). تقف الرّياض ضدّ أي جهادستان في الهلال الخصيب، و لكنّ لا أحد قادر على فهم موفقها تجاه الجهاديين السلفيين في المناطق الأخرى. كيف يسعنا بلورة سياسة متسقة في شرق أوسط يتميز فيه الناس بمثل هذا المستوى من التناقض؟ أعتقد أن الجواب على هذا السّؤال هو أن الأجانب غير قادرين على تدبير شؤون الشرقِ الأوسط، و لا يجب عليهم أن يحاولوا فعل ذلك. لقد آن الأوان لجعل بلدان المنطقة تتحمل مسؤولية أفعالها عوض تشجيعها على التصرّف بطريقة غير مسؤولة بكل حريّة. و الوقت قد حان كذلك للاعتراف بأن الولايات المتّحدة لا تستطيع لا حل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني و لا الاستمرار في توفير الحماية لإسرائيل فيما يخص العواقب القانونية و السياسية الدوليّة لتصرفها المنحرف أخلاقيا. يجب على الولايات المتّحدة أن تفهم أنه بمواصلة تماهيها مع مثل هذا التصرّف لن تربح شيئا، بل على العكس، ستخسر الكثير. و يظهر ذلك جلياً في غزّة. إسرائيل تتخذ قراراتها بدون الاكتراث إلى المصالح و القيم و النصائح الأمريكية. أعتقد أن إسرائيل كانت ستتبنى سياسات أعقل لو أنها أحست أن حماية أمريكا لها ليست تلقائية و مضمونة في كلّ الظّروف، و عليها بالتّالي تحمّل تبعات أفعالها. على أمريكا أن تقطع الحبل السري الَّذِي يربطها بإسرائيل و تدع هذا البلد يمثّل نفسَه بنفسه. لقد آن الأوان أيضا أن نكف عن الزعم بأن الولايات المتّحدة أولت أهميّة حقيقيّة للديمقراطية و لسيادة القانون أو لحقوق الإنسان في منطقة الشرقِ الأوسط. نحن ندفع ثمن الخرق الصارخ لِكُل ذلك من قبل إسرائيل، و ندعم إنكارها في مصر، و لا نتدخل في السياسة المتعصبة للأنظمة الملَكية في البحرين و العربيّة السعوديّة و الإمارات العربيّة المتّحدة. من الواضح أن السياسة الامريكية مبنية بالكامل تقريبا على المصالح بدل القيم. إذا كان هذا صحيحاً، فدعونا لا نخرق قوانيننا مدّعين بطريقة غير شريفة أنه لم يحدث لا تعسف في استعمال أسلحة أمريكية من قبل إسرائيل و لا إنقلاب و فضائح و خروقات لحقوق الإنسان في مصر. و لا ينبغي أن تكون لدينا قوانين تجبرنا على التصرّف باحتيال. إذا كانت للمصالح الحقيقيّة للولايات المتّحدة و سوريا علاقة مع إيران و خصومتها مع إسرائيل و العربيّة السعوديّة و كذا مع حربنا الباردة الجديدة مع روسيا، فلنعترف بذلك بصراحة تامّة و لنبن سلوكنا على هذا الأساس. هذا يقتضي أن نضع حدًّا للمهزلة المتمثّلة في الشكل الحالي لمؤتمر جنيف حول سوريا الَّذِي أُقصيت بموجبه من المفاوضات أطراف أساسيّة، و تحوّلت بذلك المفاوضات إلى عمليّة علاقات عامّة عوض أن تكون جهدا جادّا يرمي إلى تحقيق السّلام. لن نستطيع إيقاف المذابح في سوريا ما لم تشارك في المفاوضات كل الأطراف الفاعلة (بما فيها إيران) في الحروب بالوكالة الدائرة رحاها في هذا البلد. و الكلام نفسه ينطبق على الوضع في غزّة. لن يُحل المشكل بدون التّفاوض مع كلّ الأطراف، بما فيها حركة حماس. لقد آن الأوان لوضع حدّ للمجازر في سوريا، ليس فقط لأسباب إنسانية، مهما كانت مقنعة. توقّف المعارك في سوريا و العراق هو المفتاح لاحتواء الجهادستان و لإيقاف مسار تفكيك المنطقة الذي يزداد عنفا يوما بعد يوم. و ينبغي أن نكف عن المزايدة في سوريا، بضخ المزيد من السلاح الَّذِي قد يقع قسم كبير منه بين أيدي الجهاديين. و يتعين علينا أيضا أن نحاول تهيئة الظّروف لوقف التدخلات الخارجيّة في المعارك و الحيلولة دون ظهور و تمدّد معقل إرهابي في الهلال الخصيب و بلاد الشام يكون بمثابة ملاذ لعدد متزايد من المسلمين الغاضبين و الذين لا تزيدهم حربنا بالطائرات من دون طيار إلا إصرارا على الانضواء تحت الراية السوداء للإسلاموية الجهادية. جهادستان الذي يسمي نفسه الدّولة الإسلامية خطر على إيران و العربيّة السعوديّة على حد سواء. و مهما بدت فكرة العمل سويا سيئة لهذين البلدين، فعليهما إيجاد أرضية مصالح مشتركة. الدولة الجديدة ظهرت إلى الوجود نتيجة التنافُس الجيوسياسي و الديني بين الرّياض و طهران، و لا يمكن احتوائها إلا عن طريق تعاون ثنائي بينهما. ستكون أمريكا قادرة على مساعدة البلدين في تحقيق هذا الهدف إذا تطوّرت العلاقات الأمريكية-الإيرانية بشكل إيجابي. أما إذا بقيت الولايات المتّحدة و إيران في حالة عداء، فالبديل البديهي بالنّسبة لأمريكا يكمن في القبول بحتمية تمدّد دولة يهيمن عليها السلفيون، و تحتل رقعة واسعة من الجغرافيا السياسية الحالية للمنطقة. و يتعين على أمريكا حينئذ السعي، بمعيّة العربيّة السعوديّة، إلى التخفيف من حدّة نزعة التطرّف داخل دولة كهذه و ضمّها إلى تحالف إقليمي يهدف إلى التصدّي لإيران، تماما كما كانت عليه الحال مع العراق قبل تدميره جرّاء التدخّل العسكري للولايات المتّحدة. كل من هذه المقاربات يستلزم مستوى من المهارة الدبلوماسية و القدرة على الابتكار و الكفاءة لم تستطع الولاياتالمتحدة التحلي به أو إظهاره خلال السنوات الماضية. من المحتمل جداً أن تسير الأمور على ما هي عليه اليوم بسبب مزيج من التردّد المحيّر و انعدام الكفاءة والعسكروية يطبع السياسة الأمريكية الراهنة، و هذا يعني تعاظم الخطر المُهدد لوجود إسرائيل، و انفجار سياسي محتمل في مصر، و تفكُّك العراق و الأردن و لبنان و سوريا و فلسطين، بالإضافة إلى توجيه قسم هائل من موارد هذه البلدان لمحاربة الإرهاب الذي يستهدف المنطقة و الأمّة الأمريكية على حد سواء.