يقول الحقّ سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ}، والعضل: منع المرأة من أن تتزوّج بكفء لها إذا طلبت ذلك، ورغب كلّ واحد منهما في صاحبه، وقد كان العرب في جاهليتهم يعضُلون المرأة، إن شاءوا زوّجوها، وإن شاءوا لم يزوّجوها، فكانوا يعضلونها حتّى يرثوها أو يزوّجوها ممّن أرادوا، وإذا غضب الرجل على زوجته طلّقها ثمّ راجعها ثمّ طلّقها ثمّ راجعها، وهكذا دون حدّ، أو يتركها معلّقة، لا هي بذات زوج ولا هي بمطلقة. ولمّا بزغ فجر الإسلام ألغى هذه الأعراف الجاهلية، وبيّن للنّاس ما لهم وما عليهم، ففُرضت الحقوق، وحدِّدت الواجبات، وأصبح الجميع في ميزان سواء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، ومع ذلك فإنّ رواسب الجاهلية لا زالت تلاحق المجتمعات، وتتحّكم فيهم عادات وتقاليد، فتُمنع البنت من الزّواج وتعضل، ويرد الزّوج الكفء، ويتناسى أولياء البنت أنّ قطار العمر أسرع سيرًا عند الأنثى منه عند الذكر. وللعضل صور وأشكال مختلفة، منها ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}، قال ابن عبّاس: نزلت هذه الآية في الرجل يطلّق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عدّتها، ثمّ يبدو له أن يراجعها، فيمنعه أولياؤها من ذلك. ومن صور العضل ما بيّن المولى في كتابه: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ}، ومعنى ذلك تضييق الزّوج على زوجته، فيسيء عشرتها، ويمنعها حقّها في النّفقة، مع ما يصاحب ذلك من إيذاء بضرب وسبّ، وهدفه خسيس هو أن تفتدي الزّوجة نفسها فتخالعه: {لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} أي: لكي تفتدي المرأة نفسها من الظّلم بما اكتسبته من الصّداق، وبهذا العضل اللّئيم يسترجع ما دفعه من مهر، وربّما استردّ أكثر ممّا دفع، سُحتًا وظُلمًا. ومن أنواع العضل المنهيّ عنه ما بيّنته الآية الكريمة: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ}، ففي هذه الصورة يمتنع وليّ اليتيمة من تزويجها لغيره، لرغبته في نكاحها لنفسه من أجل مالها. ومن صور العضل المقيت أن يمتنع الوليّ عن تزويج المرأة إذا خطبها كفء وقد رضيته، كلّ ذلك طمعا في مالها، أو لطلبه مهرًا كثيرًا، فيردّ الخاطب الصّالح التقيّ، وتزوَّجُ المسكينة من شيخ هرم أو فاسق عاص طمعًا في عرض من الدّنيا زائل. ومن صور العضل أن لا يزوّجها إلاّ من العائلة نفسها، في نظرة دونية مقيتة، بدعوى المحافظة على النّسب، تفاخرًا بالأحساب، وطعنًا في الأنساب، والمصطفى صلّى الله عليه وسلّم قد أبطل هذا عندما خاطب الأنصار “يا بني بياضة؛ أنكِحوا أبا هند وأنكحوا إليه”، وقد كان رضي الله عنه حجّامًا. ومن العضل المقيت أن تُمنَع المطلّقة أو الأرملة من الزّواج ثانية، لتنعم بما أباح الله لها من ابتغاء الزّوج الكفء الصّالح، بل ينظرون إليها نظرة الدون في تقليد جاهلي بغيض. ومن صور العضل أن تمنع البنت من الزّواج بحجة إكمال الدراسة وتأمين المستقبل. ومن أخطر وأحقر أنواع العضل حين يعلن الوليّ أنّ ابنته لا يتزوّجها إلاّ فلان، كابن عمّها أو أحد أقربائها، بغضِّ النّظر عن دينه أو خُلقه، فإن هي تمنّعت ظلّت معلّقة، في عصيان صريح لحكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهو نوع معاصر من الوأد، فإذا كانت الموءودة في الجاهلية سرعان ما تموت تحت التراب، فإنّها في يومنا تظلّ حيّة تعاني جور وظلم الأهل، فأيّ ظلم أعظم من هذا الظلم الّذي يمنع الفتاة حقّها في إعفاف نفسها؟ وكم من رجل دعت عليه ابنته بدل أن تدعو له، وكم من بنت تَكِنُّ لأبيها بغضًا وكرهًا بدل الحبّ والاحترام، وما ذاك إلاّ لظُلمه لها وعضله إياها، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}. إمام مسجد عمر بن الخطاب بن غازي براقي