تتحول الاضطرابات الجوية والعواصف البحرية، خلال فصل الشتاء، من نقمة على الصيادين، إلى نعمة للباحثين عن لقمة العيش في الشواطئ، أين يقف المئات من الشباب على حواف الصخور البحرية ويتجول آخرون على طول الشواطئ الرملية، باحثين عن كنوز البحر. في صبيحة يوم بارد، غابت شمسه بسماء حالكة مثقلة بزخات أمطار متقطعة، وأمام رياح هوجاء تكاد تحبس حركة الراجلين، وأمواج هائجة تقذف برذاذها لآلاف الأمتار بشواطئ تيبازة، وقفنا على شباب يبحثون عن ما يقذفه البحر، وعلى الأشياء العالقة بين الشواطئ الصخرية. هدية “الأزرق الكبير” فعند مصب وادي مزفران، الفاصل بين منطقتي شاطئ خلوفي بزرالدة والعقيد عباس بالدواودة، شدّتنا صورة فتى لم يبرح المكان منذ الصبيحة، ولم يرفع رأسه قط، فقادنا فضولنا إلى مراقبته عن بعد، ولاحظنا أنه كان منهمكا في جمع القوارير البلاستيكية، ولم تمض سوى ساعتين حتى تمكّن من جمع عدد كبير من السدادات، وحينما همّ للالتحاق بمجموعة أخرى من الأطفال المنهمكين في نفس النشاط، اقتربنا منه وسألناه عن نشاطه، فقال بأنه نزل الصبيحة رفقة أترابه من سكان حي الزيتون في الدواودة بهدف جمع البلاستيك المنتشر على مساحات شاسعة من هذه الشواطئ الذي تأتي به الأمواج، ليحتفظ بها في بيته، إلى أن تتكدس كميات كبيرة، يقوم بنقلها نحو حظيرة بيع المواد البلاستيكية المسترجعة بمدينة فوكة، وبهذه الطريقة يجني الفتى رفقة زملائه مبالغ مالية تغنيه عن سؤال والديه “مصروف الجيب”. وأثناء حديثنا مع الفتى “زهر الدين”، التف حولنا زملاؤه، وهم ثلاثة كهول، اشتعلت رؤوسهم شيبا، ونطقت حالتهم بؤسا، فتزاحم الثلاثة حولنا ظنا منهم أننا زبائن جدد، فبادر كبيرهم “العربي” عارضا علينا شراء البلاستيك وأشياء أخرى، فأبدينا اهتماما ب “الأشياء الأخرى”، فأغرانا بأسعار مريحة لمقتنياته ودعانا لزيارة منزله الواقع على بعد نصف كلم عن الشاطئ ولم يكد يفتح الباب حتى فاجأنا بأغراض ذات قيمة أهداها له “الأزرق الكبير” كما يقول، في إشارة إلى البحر. تركنا المكان ورافقنا العربي إلى بيت شبه قصديري ملك لصديقه بمزرعة سي الحواس، وهناك أطلعنا على قائمة السلع التي يضعها للبيع، كانت زوايا البيت مكتضة بأبواب وإطارات نوافذ خشبية مستعملة، قال إنه عقب العاصفة الأخيرة جمعها من الشاطئ وأجرى عليها تحسينات وقام بدهنها وها هو يعرضها للبيع. وأثناء حديثه معنا رصدنا “كوكتال” من مقذوفات البحر، بقايا قوارب صيد، حبال من كافة الأحجام، تجهيزات كهرومنزلية قديمة، مجسمات شمعية، وقبل أن نغادرعرض علينا شراء قطع معتبرة من مادة الزفت الأسود، قال إنه جمعها، وهي عبارة عن قطع صغيرة ثم أذابها ووضعها في قوالب صغيرة بحجم 2 كلغ، وهي مطلوبة جدا في أشغال حماية الأسطح وسد الثقوب والثغرات لمنع تسرب المياه، واتضح لنا من حديثه أن هذه المادة تصدر عن الحركة الكثيفة لنقل المحروقات في أعالي البحار، وأدركنا حينها أننا لم نكن الوحيدين في المستودع، وأن جميع ما يلقيه البحر يمكن أن يجد له طالبا. في طريق العودة إلى نقطة الانطلاق، تحدثنا مع “بلعالية” شاب في العقد الثالث، كان متكئا على عربة يدوية تحتوي مجموعة من الأغراض، صارحنا أنه قادم من منطقة الزاوية في ولاية البليدة، بغرض الصيد بالصنارة، والأهم عنده هو التجول عبر أرجاء الشواطئ الفسيحة لالتقاط ما يمكن إيجاده وله فائدة ونفع في بيته. ويروي محدثنا أن هذا النشاط يحمل له مفاجآت سارة ويصطحب معه أبناءه الثلاثة، أعمر، مروان وحمزة، فيوزعهم على شواطئ متفرقة ويتركهم ينقّبون عن أي جسم تتخلص منه مياه البحر، مؤكدا أن العاصفة البحرية التي ضربت الساحل الأوسط وأغرقت باب الوادي سنة 2001، فتحت شهيته لمزاولة هذا النشاط، حيث لا يزال يتذكر أنه جمع عشرات الأعمدة الخشبية وأكثر من 13 قارورة غاز بوتان كانت فرصة لجمع مبالغ مالية مكّنته من شراء دراجة نارية، وهي ليست المرة الوحيدة التي يجني خلالها “سي بلعالية” أموالا. حتى الأورو كما قص علينا الشاب “حمزة” المتمدرس في صف الرابعة متوسط، تجربة حافلة بالمفاجآت السارة التي قلبت أيامه، خصوصا حينما اكتشف ذات شتاء من موسم 2014 كومة من الملابس البالية كانت قد لفظتها أمواج البحر بشاطئ فلوريد بالدواودة عثر فيها على 9 قطع نقدية من فئة 20 أورو كانت مثبّتة بإحكام داخل كيس من قماش جرفتها التيارات البحرية من الضفة الأوروبية. وتشتهر شواطئ بواسماعيل وفوكة البحرية بالكنوز البحرية والتنوع المائي، وبحكم وقوع شواطئهما في عمق الخليج البحري، تزداد درجة الاهتمام بهذا المناطق بسبب تراكم النفايات البحرية فيها، أين وجدنا مجموعة من الحرفيين المهتمين بصناعة الأحواض المائية الموجهة للزينة المنزلية، وينتظرون بشغف كبير هدوء الأمواج ويتسابقون على التقاط بقايا الأسماك والقشريات وحتى الحصى البحري التي لا تقل قيمة عن الخشب والمطاط. ولا يكلّ ولا يملّ حرفيون محليون عن جمع كميات معتبرة من قواقع المحار البحري، بلونيه الأصفر الفاتح والأسود والرمادي “كوكياج”، ويقوم هؤلاء بتوجيهه إلى بعض الورشات الفنية المختصة في صناعة مجسمات الذكريات والأشكال الفنية التي تعرض عبر الطاولات والمعارض الموسمية. فالكثير من القطع السياحية المروّجة عبر أقطار الوطن، تصنع من قواقع المحار الذي تقذفه الأمواج بأعداد هائلة خلال هذه الفترة، وهو ما يوفر نشاطا موسميا مربحا لمجموعة من العارفين بالمناطق التي يتكاثر فيها هذه الكائنات البحرية. وبشواطئ ڤوراية وسيدي غيلاس وحجرة النص وخصاة الداموس والأرهاط بأقصى غرب تيبازة، لا يتأخر فنيو في فرز الحشائش البحرية والتنقيب عن الأصداف والشجيرات البحرية وبعض القطع الملونة ذات الأشكال البديعة، والتي يكثر عليها الطلب لدى مركبي أحواض الأسماك الموجّهة لتزيين الواجهات والصالونات. أكد أحد باعة الأحواض المائية ببواسماعيل في حديثه مع “الخبر”، أن الاضطرابات البحرية تخلّف وراءها أرزاقا للكثير من الباحثين عن لقمة العيش، ففيما يتعلق بتنامي نشاط التزيين المنزلي بالديكورات البحرية والمائية، تشتد الحاجة لهؤلاء الأشخاص العارفين بأهم مناطق الأصداف والمكونات البحرية وجميع الأشياء التي تحاكي التنوع المائي للبحر الأبيض المتوسط، ولم يعد ممكنا لمصممي الأحواض الصغيرة والكبيرة، الاستغناء عن الحجارة البحرية وكل أشكال الهياكل الشوكية للأسماك والفقاريات. ولهذا، فإن الحلقة ستتوسع بتوسع هذه الأنشطة، بدليل تهافت الكثير من أصحاب المال والأعمال على تزيين الفيلات والمراكز التجارية بزوايا مائية لا تخلو من قطع طبيعية بحرية، لا تكون متوفرة إلا إذا ضربت الأمواج بعضها بعض وأخرجت أثقالها وكنوزها فتضعها بين أيدي الباحثين عن الرزق الحلال.