ورد في جامع الترمذي من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: كنتُ خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومًا فقال: ”يا غلام إنّي أُعَلِّمك كلمات؛ احفظ الله يَحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعْلَم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلّا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضُرّوك بشيء لم يضرّوك إلّا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام وجَفّت الصحف”. إنّ حفظ العبد لربّه ومولاه ينتظم صورًا عديدة، ومن ذلك حفظ حدود الله تعالى، وقد مدح الله عباده الّذين يحفظون حدوده، فقال في معرض بيانه لصفات المؤمنين الّذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}. نعم، بشَّرهم إذا حفظوا أوامره وحدوده، أن يحفظهم في دينهم ودنياهم، وفي أُولاهم وأُخراهم. فمن حفظ الله أن نحافظ على طاعة ربّنا، أن نحافظ على ما افترض علينا، أن نحافظ على النّوافل، فكلّ ذلك من الطّاعة، فأفضل الأعمال عند الله وأحبّها فرائضه، ثمّ تأتي بعد ذلك النّوافل: ”وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحِبُّه، فإذا أحببته كنتُ سمعَه الّذي يسمع به، وبصرَه الّذي يُبصِر به، ويده الّتي يَبطش بها، ورجله الّتي يمشي بها، وإن سألَنِي لأعطِيَنَّه، ولئِن استعاذني لأُعِيذَنّه”. ومن حفظ الله أن يحفظ العبد جوارحه، وهو المراد بالحياء من الله، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”استحيوا من الله حقّ الحياء”، قلنا: يا رسول الله إنّا نستحيي والحمد لله، قال: ”ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حقّ الحياء أن تحفظ الرأس وما وَعَى، والبطن وما حَوَى، ولتذكر الموت والبلى، ومَن أراد الآخرة ترك زينة الدّنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حقّ الحياء”. ومن الجوارح الّتي ينبغي العناية بحفظها الفرج، قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}، وقال في نعت المؤمنين أهل الجنّة: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}. ومن أهم الجوارح الّتي ينبغي حفظها اللّسان، قال عليه الصّلاة والسّلام: ”مَن يضمَن لي ما بين لِحْيَيْه وما بين رجليْه أضمَن له الجنّة”، يقول عقبة بن عامر رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله ما النّجاة؟ قال: ”أمْسِك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابْكِ على خطيئتك”. ولله در الشّاعر حين يقول: احفظ لسانك واستعذ من شرّه إنّ اللّسان هو العدو الكاشح وَزِنِ الكلام إذا نطقت بمجلس فإذا استوى فهناك حلمك راجح ومن حفظ الله المحافظة على الصّلاة، وما أدراك ما الصّلاة؟ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}، فمن حافظ على الصّلوات وحفظ أركانها حفظه الله من نقمته وعذابه، وكانت له نجاة يوم القيامة، يقول ابن القيم رحمه الله ”في الطب النّبويّ”: (والصّلاة مجلبة للرّزق، حافظة للصّحة، دافعة للأذى، مطردة للأدواء، مقوية للقلب، مبيضة للوجه، مفرحة للنّفس، مذهبة للكسل، منشّطة للجوارح، ممدة للقوّة، شارحة للصّدر، مغذية للرّوح، منوّرة للقلب، حافظة للنّعمة، دافعة للنّقمة، جالبة للبركة، مبعدة من الشّيطان، مقرّبة من الرّحمن، ولها تأثير عجيب في حفظ صحة البدن والقلب وقواهما، ودفع المواد الرديئة عنهما، وما ابتليَ رجلان بعاهة أو داء أو محنة أو بلية إلّا كان حظّ المصلّي منهما أقلّ وعاقبته أسلم، وسرّ ذلك: أنّ الصّلاة صلة بالله عزّ وجلّ، وعلى قدر صلة العبد بربّه عزّ وجلّ تفتح عليه من الخيرات أبوابها وتقطع عنه من الشّرور أسبابها، وتفيض عليه مواد التّوفيق، والعافية والصحّة، والغنيمة والغنى، والرّاحة والنّعيم، والأفراح والمسرّات، كلّها محضرة لديه، ومسارعة إليه). ومن حفظ العبد لربّه أن تحفظ المرأة حقّ زوجها وترعاه، قال تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ الله}، أي: مطيعات لله ولأزواجهنّ، حافظات لأزواجهنّ مالهم ونفوسهنّ. ومن حفظ الله أن نحفظ الأيمان: {وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ}، {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. ومن حفظ العبد للربّ أن يحفظ كتابه: ”إنّ القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشقّ عنه قبره كالرّجل الشّاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول له: أنا صاحبُك القرآن الّذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإنّ كلّ تاجر من وراء تجارته، وإنّك اليوم من وراء كلّ تجارة، فيعطى المُلك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلّتين لا يقوم لهما أهل الدّنيا فيقولان: بِمَ كسينا هذه؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن، ثمّ يقال له: اقرأ واصعد في درجة الجنّة وغُرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هذا كان أو ترتيلًا”. إمام مسجد عمر بن الخطاب بن غازي براقي