يقف المحلل السياسي التونسي الحبيب بوعلجية، في هذا الحوار الذي خص به "الخبر"، عند أهم الأسباب القانونية والسياسية التي تسببت في الأزمة السياسية التي تعيشها تونس بين رئيس الدولة قيس سعيد ورئيس حكومته هشام المشيشي، مشيرا إلى مخططات خارجية تستهدف تونس والمنطقة في إطار التي هي جزء من مسرح كبير وصاخب للعبة أمم ومعركة ترتيب جديد لنظام إقليمي ودولي على قواعد جديدة. كيف يمكن توصيف الأزمة الحاصلة بين الرئاسة ورئيس الحكومة، هل هي أزمة دستور أم أزمة توازنات برأيك؟ الأزمة مركبة.. لا شك أن الدستور الذي صاغته الثورة والقوى الوطنية بعد سقوط الاستبداد كان محكوما بهاجس قطع الطريق أمام كل محاولة للعودة إلى مركزة السلطة واحتكارها، مما جعله ينحو إلى توزيع السلطات بشكل كبير فيقسم صلاحيات السلطة التنفيذية على رأسين خوفا من العودة إلى رئاسوية مقيتة عانى منها الشعب التونسي في عهدي الحكم الفردي البورڤيبي وفي فترة بن علي، ووضع هذا الدستور مغاليق كثيرة لتجنب الانفراد بالسلطة التنفيذية، لكنه ربما غفل عن بعض الحالات غير المتوقعة في حالة خلاف بين رأسي السلطة التنفيذية، كما وقع بين المرحوم الباجي ورئيس الحكومة الشاهد أو كما وقع حاليا بين قيس سعيد والمشيشي.. خصوصا في ظل تلكؤ البرلمان السابق والحالي في تنصيب المحكمة الدستورية باعتبارها هيئة ضرورية للحسم في خلافات تأويل الدستور.
لكن أيضا بعد سياسي في الأزمة بغض النظر عن البعد الدستوري؟؟ طبعا، هذا في البعد الدستوري الإجرائي للأزمة، أما البعد السياسي فيتعلق باهتزاز الثقة الرهيب بين رئيس جمهورية قادم من خارج النسيج السياسي الحزبي التقليدي وأطراف حزبية متمسكة بالبرلمان كسلطة أصلية. الرئيس قيس سعيد وبمجرد عودة المبادرة إليه دستوريا منذ سقوط حكومة الجملي، تمسك باعتماد طريقة في تسمية رئيس الحكومة تقوم على جعل نفسه اللاعب الرئيسي في بناء الحكومة وتحويل رئيسها إلى وزير أول أو رئيس وزراء عنده وإلى منح نفسه كرئيس جمهورية صلاحيات أكبر في تعيين وزراء الحكومة وتحديد طبيعة التحالفات الحزبية التي تكونها فاشترط مع الفخفاخ رئيس الحكومة المتخلي، عدم تشريك قلب تونس حزب غريمه الرئاسي نبيل القروي واشترط على رئيس الحكومة الحالي المشيشي تكوين حكومة غير سياسية وضع له فيها أكثر من وزير إضافة إلى الدفاع والخارجية الذين يكفل له الدستور التدخل في تسميتهما، وبمجرد تمرد المشيشي واتجاهه نحو ممارسة صلاحياته كرئيس حكومة واتجاهه نحو الاعتماد على وسادة أو حزام برلماني حزبي اندلعت الأزمة بين قرطاج والقصبة. رئيس الجمهورية ينطلق باستمرار من رؤية يراها أكبر الأحزاب (قلب تونس والنهضة) بالخصوص عدوانية والرئيس يصر باستمرار على اعتبار هذه المنظومة برمتها فاسدة... من دستورها إلى نظامها السياسي إلى أحزابها، مما حوله إلى طرف سياسي في الصراع عوض أن يكون ضامنا للوحدة الوطنية وعلى نفس المسافة من الجميع.. في سياق متصل، تواصل انقسام المنتظم الحزبي على قاعدة استقطابات تقليدية تتخذ أحيانا مظهر صراع إيديولوجي مفوت تاريخيا، ولكنها في جوهرها صراعات لوبيات اقتصادية وحتى اصطفافات لمحاور دولية، مما حول المشهد إلى منازعات على مربعات النفوذ، وهو ما حول المشهد الحزبي إلى اصطفافات وجزر تحالفات حول قرطاج أو القصبة أو باردو... إنها أزمة مركبة.
ثمة مفارقة.. تتجه ليبيا المتفجرة إلى الاستقرار بينما تتجه تونس إلى مزيد من التأزم والتوترات... هل هذا التوصيف موضوعي أم أن الأزمة في تونس لها منافذ انفراج؟ نبارك لإخوتنا الليبيين نجاحهم في التوافق وإنهاء النزاع الداخلي وهذا في رأيي في مصلحة المنطقة، وأتصور أن حل الأزمة الليبية سوف يؤدي أيضا إلى إيقاف كثير من المناورات والنزاعات السياسوية في تونس، لأن كثيرا من هذه الصراعات التونسية كانت تتغذى من التوترات الإقليمية... قوى سياسية كثيرة في تونس تحولت إلى مصدر أزمة بسبب وضع نفسها على الذمة كقوى وظيفية في الاصطفافات والأجندات المتدخلة في المنطقة والتي تتآمر على استقرار المنطقة وتعادي التحولات الديمقراطية وبالأساس في أرض منبت الربيع العربي تونس... اتجاه الأزمة الليبية إلى الحل وقوة واستقرار الشقيقة الكبرى الجزائر عاملان مبشران بحول الله لتجاوز الأزمة السياسية في تونس، يضاف إلى هذين العاملين وعي كثير من القوى الوطنية بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية العاجلة ويأس قوى الثورة المضادة من توهم قدرتهم على كسر مسار الانتقال الديمقراطي بعد اختبارات القوة التي تمت في الشوارع المتقابلة في الأشهر الأخيرة... ولعل الدعوات المتكررة من أغلب الأحزاب إلى الحوار الوطني الذي يثبت المكاسب السياسية الديمقراطية، ويذهب إلى الحلول الاقتصادية خير دليل على أن المأزق السياسي التونسي في طريقه إلى الحل بمن أراد أن يكون جزءا من الحل، أما من أقصى نفسه مراهنا على التأزيم فلا أتصور أنه مازال له أوراق كثيرة لاستعمالها.. سوف تذهب تونس قريبا وتحت إكراهات واقع داخلي ومحلي وإقليمي إلى خيار الاستقرار الديمقراطي والإنجاز الاقتصادي والاجتماعي لتكون تونس وليبيا والجزائر ثلاثي الاستقرار الفعال لمصلحة شعوب ستقرر مصيرها المشترك بعيدا عن مؤامرات الأعداء والمتربصين.
هناك في الجزائر رصد لتطورات الوضع في تونس ومخاوف من أزمة أخرى في الجوار، إلى أي مدى يمكن أن تكون المخاوف الجزائرية مبررة؟ ندرك تماما في تونس أن استقرارنا على قاعدة الديمقراطية واستقلال القرار الوطني ووحدة المصير الأمن والمستقل مع أهلنا وأشقائنا في ليبيا والجزائر هو مكسب للجميع.. نتفهم تخوفات أشقائنا الجزائريين ونعرف مدى تعلقهم باستقرار الأوضاع في مغربنا العربي ومنع العبث باستقلاله وكرامته ومثلما كان للجزائر الدور الكبير في مواجهة تونس الثورة والديمقراطية لمؤامرة الإرهاب، فإن القوى الوطنية والديمقراطية تأخذ دائما بعين الاعتبار مصلحة الجزائر في كل ما تقرره هذه القوى لتونس من سياسات داخلية وخارجية... نحن لا نقرر لأنفسنا كتونسيين فقط... نحن نتصرف دائما باعتبارنا جزءا من شعوب مغرب عربي يريد أن يكون حرا ومستقلا ومن أمة عربية طامحة إلى حريتها بالديمقراطية وبالتحرر الوطني المعادي للرجعيات والصهاينة بكل أشكالها.
لافت لقاء الرئيس بالسفراء كما رئيس الحكومة، يفهم من ذلك تدويل في مستوى أول أم محاولة استقواء أم برأيك خطأ سياسي من كليهما؟ اللقاءات بالسفراء جزء من معركة سياسية يدرك الجميع أن خيوطها ليست محلية داخلية فحسب... منطقتنا اليوم وتونس جزء منها هي مسرح كبير وصاخب للعبة أمم ومعركة ترتيب جديد لنظام إقليمي ودولي على قواعد جديدة... ليس المشكل في اللقاءات مع السفراء... المطلوب أن لا يكون ذلك ضمن لعبة استقواء أو اصطفاف لن يقبل بها الشعب التونسي أصلا وأن لا تكون إلا برؤية وطنية موحدة تأخذ بعين الاعتبار المصلحة الوطنية ومصلحة شعوبنا في المنطقة... دون ذلك يبقى قرارنا الوطني المستقل خط أحمر وقد اختبر كثيرون الشعب التونسي واكتشفوا بما لا يدع مجالا للشك أنه لا ولن يتنازل عن حريته واستقلاله الذي يريد دعمه لا الإنقاص منه.