رغم أن محطة العاصمة العراقية لم تكن مدرجة في جولة وزير الخارجية الامريكي، إلى المنطقة العربية إلا أن تطورات الأوضاع في هذا البلد فرضت على جون كيري، التوجه الى بغداد وعقد لقاء مع مختلف المسؤولين لبحث الموقف "الخطير" في بلد حليف. وبغض النظر عما إذا كانت الخارجية تعمدت عدم الإعلان عن الزيارة لدواع أمنية، أو أنها اقتنعت بإدراجها في جولة كيري في آخر لحظة، إلا أن المؤكد أن قلق واشنطن بلغ ذروته من تسارع الأحداث التي يمر بها بلد كان إلى غاية نهاية سنة2011، تحت وصاية أمريكية ضمن تجربة أكدت محدوديتها في تكوين جيش نظامي قادر على حماية هذا البلد، ولكنه لم يلبث أن وقع فريسة سهلة في أول تجربة أمنية فرضها تنظيم إسلامي متطرف. وانتهج الوزير الأول العراقي، أمام وزير الخارجية الامريكي سياسة المدافع عن نفسه ردا على سيل الانتقادات التي حمّلته مسؤولية ما يجري في بلده بسبب انتهاجه سياسة تهميش متعمّد للطائفة السنّية، عندما راح يؤكد أن "الوضع في العراق خطير وأصبح يهدد السلم في المنطقة والعالم"، حاثا دول المنطقة على أخذ هذه التهديدات محمل الجد. والحقيقة أن نوري المالكي، لم يكشف سرا عندما أعطى هذه الصورة القاتمة السواد حول ما يجري في بلاده على اعتبار أن هذه التحذيرات سبقه إليها متتبعون لتداعيات أحداث الأسبوعين الأخيرين، التي كشفت عن حقائق أفظعها أن الجيش النظامي العراقي لم يكن مهيآ لخوض مواجهة مفتوحة مع عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، بعد أن تفككت وحداته بشكل محير أمام زحف عناصر هذا التنظيم. ولكن الرقم الأول العراقي يدرك قبل غيره حقيقة أن الوضع في بلاده خطير، ولكنه أراد أن يستبق الانتقادات الأمريكية التي كان جون كيري، أن وجهها له ضمنيا عندما طالبه بضرورة توافق المسؤولين العراقيين من كل الطوائف على تشكيل حكومة وحدة وطنية. وتيقن المالكي أن تصريحات كيري في القاهرة كما في عمان الأردنية توحي انه لم يعد يحظى بتأييد إدارة الرئيس باراك اوباما، التي أصبحت تنظر إليه على انه عبء عليها أكثر منه مسؤول يمكنها الاعتماد عليه في تسوية مشكلة عويصة مرشحة لأن تتحول الى مأزق في ظل تباين مواقف دول الجوار في التعاطي مع ما يجري وطالبت برحيله اليوم قبل غد. وعندما ندرك أهمية العلاقات الاستراتيجية بين واشنطن والرياض مثلا، وأيضا مع الدوحة وخلافات العاصمتين مع بغداد يمكن القول أن الولاياتالمتحدة ستكون مرغمة على التضحية بشخص يمكن استبداله على أن تتزعزع علاقاتها مع دولة مثل العربية السعودية التي تنظر إليها كحليف ذي وزن يجب إرضاؤه في كل الحالات. والمؤكد أن الوزير جون كيري، وضمن مقاربة أمريكية براغماتية أبلغ المالكي، رسالة واضحة بل يمكن القول أنها صارمة لتسريع تشكيل حكومة جديدة علها تكون بداية انفراج أزمة سياسية حادة ما لبثت أن تحولت الى أزمة أمنية بتداعيات إقليمية. كما أن المسؤول الامريكي عندما استعمل عبارة أن بلاده غير مسؤولة عن ما يحدث في العراق، إنما أراد أن يوجه رسالة ضمنية الى المالكي بأنه المسؤول الأول عن الانفلات القائم، وتفنيدا أيضا للانتقادات التي وجهت لبلاده على أنها فشلت في تكوين جيش عراقي قوي وبناء مؤسسات ديمقراطية بعد ثماني سنوات من احتلال لم يزد العراق إلا ضعفا ورشحه لتفكك طائفي خطير. ومهما يكن فإن توالي الضغوط الدولية وتزامنها مع فرض تنظيم "داعش" منطقه العسكري ومواصلة استيلائه على مدن بأهمية مدينة تلعفر الاستراتيجية، جعلت الوزير الأول العراقي في وضع حرج وبدائل منعدمة بعد أن ضاق هامش المناورة من حوله ولم يبق أمامه سوى الإذعان للأمر الواقع، وتنفيذ مطالب المجموعة الدولية بتشكيل حكومة توافق وطني على اعتبار أن الحل الأمني وحده لن يحل المعضلة العراقية إذا سلمنا أن الجيش العراقي سيستعيد روح المبادرة الميدانية التي لن تكون ليوم غد.