زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي للجزائر اتسمت "بالوسطية" في اتجاه مايسمى بساسية الخطوة خطوة في ظل سيطرة إرث الماضي عليها رغم محاولات زحزحتها جانبا لفترة ظرفية، فاسحة بذلك المجال لخطاب البراغماتية الذي يفتح آفاقا واعدة لعلاقات البلدين بعد ابرام عقود اقتصادية بقيمة 5 ملايير دولار· رغم أن الرئيس الفرنسي لم يخالف سابقيه بخصوص مسألة تقديم الاعتذار التي تتمسك بها الجزائر في علاقاتها مع فرنسا إلا أنه يمكن القول أن الرئيس ساركوزي نجح إلى حد ما في تحقيق خطوة جريئة باعترافه بفظاعة الجرائم خلال الحقبة الاستعمارية رغم محاولته تصنيف ضحايا الجانبين من الجزائريين والفرنسيين في خانة واحدة· وكأن الرئيس الفرنسي بهذه الخطوة يريد كسر الحاجز النفسي الذي اعترى موقف بعض دوائر القرار في الإليزي التي ترفض التلفظ بالاعتراف والاعتذار، محاولة منها الاحتفاظ بهذه الورقة في إطار فرض المنطق القديم والوصاية تجاه الجزائر، في مقابل رفض هذه الأخيرة التنازل عن حقها بخصوص مسألة الاعتذار حفاظا على ذاكرة الشهداء· ولعلنا نلمس في تصريحات الرئيس ساركوزي محاولة أولى لتهيئة الظروف للدخول في خطوة أكثر جرأة بعد اعترافه بما ارتكب من جرائم خلال الفترة الاستعمارية، وذلك بعد أن سبقتها خطوة تسليم فرنساالجزائر لبعض مخططات الألغام المزروعة على طول الحدود الجزائرية والتي مازالت تحصد العديد من الأرواح· فرغم أننا نستبعد تقديم باريس اعتذارها للجزائر في الوقت الراهن من منطلق رغبة باريس في فتح نقاش حول الذاكرة بين الشعبين مثلما أعلن عن ذلك الرئيس ساركوزي، إلا أنه يمكن القول أن موقف الجزائر المتمسك بحقها في الاعتذار قد نجح إلى حد ما في اضفاء مرونة على الموقف الفرنسي رغم تناقضه· ورغم ذلك أبدى البلدان إرادة جديدة لتأسيس العلاقات وأشكال التعاون الثنائي، مثلما سبق أن أكد على ذلك وزير الخارجية السيد مراد مدلسي مؤخراً خلال زيارته لباريس، حيث قال أنه "يجب ترك المسألة التاريخية للزمن"· ومن هنا نفهم محاولة الوافد الجديد للإليزيه إحداث توازن في سياسته "بحذر" وهو المعروف ببراغماتيته الكبيرة خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمصلحة الاقتصادية لباريس لاسيما في مجال تأمين "ذخيرة الطاقة" على المدى الطويل· والمؤكد أن الرئيس ساركوزي يدرك أن الذهاب بعيدا في علاقات التعاون الثنائي مع الجزائر يقتضي في نفس الوقت الأخذ بعين الاعتبار كفة الإرث التاريخي بكل مواجعه والذي يبقى الشعب الجزائري أكثر تضرراً منه مثلما تضرر الشعب الفرنسي من جرائم الألمان الذين قدموا اعتذاراتهم له قبل أن تطالب باريس بذلك· وبلا شك فإن المعطيات الجديدة قد لعبت دورها في سياسة ساركوزي الذي بقدر مايسعى إلى إرساء شراكة استثنائية مع الجزائر، بقدر مايدرك أنه لايمكن لقاطرة هذه الشراكة الانطلاق دون الإقرار بضرورة تجاوز التأثيرات التاريخية أو التخفيف منها على الأقل في مرحلة أولى، وهو ماتم بشكل نسبي عندما انتزع نطق الاعتراف من الأطراف الفرنسية التي تحاول إدارة ظهرها لحقبة سوداء من تاريخ فرنسا صاحبة أكبر ثورة في العالم تلطخت يداها بجرائم مقترفة في حق ملايين الجزائريين لأكثر من قرن من الزمن، مناقضة الشعارات التي قامت عليها وهي الحرية، المساواة والأخوة مثلما اعترف بذلك الرئيس الفرنسي شخصيا·