تعد حريّة التعبير من أهم أسس المجتمع الديمقراطي، وهي من شروط النهضة والتقدم على مختلف المستويات، كما أن ممارسة هذه الحرية هي من بين الضمانات الأساسية لاحترام بقية الحقوق والحريات والسيادة الوطنية. لكن قد يلاحظ نوع من الانفلات الإعلامي قد ينتج من سوء فهم حرية التعبير واستعمالها بطريقة مخالفة لأخلاقيات حرية التعبير والإعلام وبالتالي يحدث خرق للقانون، وتسود الغوْغائية والتّلاسن وتنحط لغة الحوار وتصل حد القذف والتهديد، وهو الأمر الذي ينعكس على المشهد العام للمجتمع الذي يصبح بكل مكوناته من الهرم إلى القاعدة مهددا بالفوضى. في هذا المنحى تستعرض «المساء» آراء وتحاليل بعض أساتذة الجامعة الذين تعرضوا لمفهوم حرية التعبير وضوابطها بالتحليل والنقاش العلمي الهادئ. الدكتور والمحلل الإعلامي بن بوزة صالح: الحرية المطلقة لم تعد مجدية يشير المتحدث إلى أن مفهوم حرية الصحافة بدأ تاريخيا مع النظام اللبرالي على أساس أن أصل الإنسان هو الحرية يتمتع بها بشكل مطلق (نظرية تقليدية). من حيث المبدأ لم يجد هذا المبدأ اعتراضا من الصحفيين والأنظمة السياسية حتى بداية القرن ال20، إلى أن تطورت الصحافة من خبر إلى رأي ثم إلى خبر ورأي وتعزز ذلك مع ظهور الأحزاب السياسية فتحولت الصحافة من مجرد وسيلة إعلام إلى وسيلة لصناعة الرأي العام وتوجيهه، ونتيجة أيضا لظهور الأحزاب السياسية والتنافس الحزبي خاضت وسائل الإعلام الحملات الانتخابية فظهر ما يعرف بالدور السياسي للصحافة ، ومع ظهور المذهب الاشتراكي الذي جسد نظاما جديدا من حيث التوجه الإيديولوجي والقائم بذاته أدى إلى توظيف الصحافة في الصراع الإيديولوجي، ثم أخذ هذا الصراع وسائط الإعلام بشكل أعمق بعد الحرب العالمية الثانية بما يعرف بالحرب الباردة ولهذا السبب أصبحت الصحافة تستخدم في الصراع الدولي. وخلال النصف الأول من القرن ال20 برزت ظاهرة الاحتكار في مجال الصحافة وتغير معها نمط الملكية، فبرزت المجموعات الصحفية الصغيرة وأصبحت هي المسيطرة وبدأ تدريجيا يتجلى المفهوم السلعي للمادة الإعلامية خاصة مع تأثير المعلنين على سياسة الصحف. في نفس الفترة ازدهرت صحافة الصورة مما أغرى المالكين إلى استغلالها وأصبحت أكثر بروزا فيما يعرف بالإشارة الإعلامية فراجت الصحافة الصفراء. يؤكد المتحدث أن هذه التطورات أدت إلى بداية انحراف الصحافة في المجتمع اللبرالي وهي اتحاد حرية إبداء الرأي مع بروز الاحتكار والصحافة الصفراء، فأصبحت معايير النشر ليست بالضرورة هي تلك التي تستجيب لمطلب المواطن (إعلام نزيه ومسؤول). برزت تيارات لدراسة إعادة النّظر في الصحافة اللبرالية، مؤكدة أن استمرار هذا الوضع يهدد الصحافة بتجاوزاتها للمعايير المهنية والقيمة في الممارسة، فظهر ما عرف بلجنة هولمز، التي درست أوضاع الصحافة في الغرب سنة 1947، وأعطت تقرير ملخصه «أن الصحافة حرة ولكنها مسؤولة « وبالتالي على الصحافة أن تلتزم ببعض الحدود وعدم المغالاة في الحرية، وبالتالي لم تعد كفيلة بأوضاع المجتمع نتيجة الاحتكار والربح والإعلام السلعي، فضاعت مكاسب التنوع والأفكار والرؤى وهو الأمر الذي يهدد المبدأ اللبرالي نفسه المبني على قيم الأفكار والتنوع والحرية. فوضعت بعض الأسس والمعايير للصحافة حيث الحرية المطلقة لم تعد مجدية ولا كافية، ومع التطور الرأسمالي وتعارض المصالح لم يعد الصحفي مسؤولا فتغيرت معايير النشر والتحرير. تناول المتحدث نظرية «المسؤولية الاجتماعية للصحافة» تلتقي فيها الحرية بالمسؤولية مع مراعاة المصلحة العامة في النشر وكان ذلك محفزا لاحترام أخلاقيات مهنة الصحافة. بالنسبة للدول النامية يختلف الوضع، حيث لم تتعامل وسائل الإعلام فيها وفق «المسؤولية الاجتماعية للصحافة»، بل من منظور دور الإعلام في التنمية بمعنى أن الإعلام حر لكنه مسؤول وملتزم بقضايا التنمية الوطنية، يساهم في التوعية والتجنيد للنهوض بالوطن، وبالتالي فإن المسؤولية يتم تبنّيها تجاه المجتمع بشكل أقوى وأعمق من الغرب ولا تكتفي بمعايير النشر، بل هي ملزمة بأخلاقيات وقيم في الممارسة والإنحياز إلى المصلحة العامة. الجزائر انفردت بتدعيم الصحافة الخاصة يؤكد المتحدث أن اليوم العالمي لحرية الصحافة ارتبط عندنا في الجزائر بالانفتاح الإعلامي وبالتعددية السياسية علما أن الإعلام والسياسة وجهان لعملة واحدة فكلاهما يدعم الآخر. حرية الصحافة قبل 1990 كانت ذات مفهوم تنموي وثوري ومع التعددية فتح الباب على مصراعيه لأول مرة للنشر وتغير نمط الملكية للصحف وفق القانون. علما أن الدولة ساهمت في إنشاء هذه التعددية ولم تتركها فقط للقطاع الخاص وسمحت لصحفييها عبر وسائل الإعلام العمومية بإنشاء صحف خاصة ووفرت القروض وبالتالي كانت هي الأصل في نشأة هذه الصحافة. ومن ثم هناك بالجزائر صحافة خاصة تتمتع بهامش واسع جدا من الحرية بلغ أحيانا الفوضى كما هو الشأن في نشر أحداث الجريمة والعنف، وأصبحت الصحافة اليومية صحافة إثارة أكثر منها صحافة ملتزمة بقضايا الأمة. وأصبح الخبر الأول هو إثارة على حساب القضايا الوطنية، بل إن هناك أخبارا لا تستحق النشر منها الحوادث المنزلية البسيطة أو «جرار دهس صاحبه لأنه نسي الفرامل» وغيرها، وهنا توقف المتحدث ليوضح أن الإثارة لها معاني وذات قيمة إخبارية تهدف إلى شد الانتباه لإبراز مواضيع ما وقضايا تهم الرأي العام وليس من باب خالف تعرف أو أن الشاذ يستحق النّشر. ويضيف أنه أحيانا تنشر تفاصيل الجريمة وكأنها تحفيز لممارستها وهذه المعايير لا توجد حاليا في صحافة الغرب كي لا تحفز على العنف والجريمة والمضمون الهابط. كما أشار المتحدث إلى أن بعض الصحف عندنا تركز على الأخبار السلبية وعلى كل ما هو صراع وعلى الغرابة والإثارة المبالغ فيها ويلاحظ المتصفح للكثير من العناوين من الصفحة 1 حتى 24 وكأن القيامة قامت في الجزائر قبل موعدها كأنه لا جميل عندنا وكل شيء سلبي وقاتل، مع المبالغة في التهويل الإعلامي الذي تلجأ إليه بعض الصحف باسم «حرية الصحافة» بمعنى توظيف حرية الصحافة في نشر هذه المضامين تحت قناعة أن كل شيء يصلح للنّشر، وهنا تجب الإشارة إلى أن «اليونسكو» والتجارب الأوروبية السبّاقة في التعددية لا تسمح بنشر كل ما هو سلبي وقاتل عن بلدها باسم الحرية. التوازن مطلوب وايجابي وهو مكسب يعكس الموازنة بين مصلحة الربح والرأي العام وسمعة الجزائر. بالنسبة لصحافة الرأي في الجزائر فهي من حقها أن تدلي بدلوها في كل القضايا. علما أن التجارب الأوروبية تدافع عن برامج أحزابها بمسؤولية، أي أنها لا تطعن في إنجازات البلد ولا في سمعته، بل تدافع عن آرائها وتتبنّى النقد البنّاء، بينما نحن في الجزائر يشير الدكتور صالح تلجأ الصحف إلى المبالغة والنّقد دون أساس ودون اعتماد استراتيجيات للإقناع المبنية على الحجّة والبرهان واحترام ثوابت الأمة والمجتمع. وأعطى في ذلك مثالا خاصا بصدور تقرير وزارة الخارجية الأمريكية عن أوضاع حقوق الإنسان والذي يعطي مؤشرات عن كل دولة، لكننا لا نتناوله في إطار محدد على اعتبار أنه لا يعكس الحقيقة المطلقة، ولأن العلاقات الدولية والتقارير ليست بالضرورة منزّهة في كل الحالات، بل تعكس مصالح دولها ولذلك فإن التهليل لما يرد في هذه التقارير في بعض صحفنا هو مبالغ فيه. البروفيسور محمد شطوطي (جامعة الجزائر 2):الصحافة لسان الشعب فلتحذر يرى البروفيسور شطوطي (أستاذ وباحث في علم النفس ومستشار شخصي ومدير مجلة «أضواء» والمفكر ومحاضر بمعهد علوم الإعلام والاتصال)، أن النواقص في مجال الإعلام تكمن في التكوين خاصة من الجانب الفني وفي المهارات، لكنه ثمّن بالمقابل ما يبذل حاليا من ذلك القنوات الإذاعية الجهوية التي لها دور فعّال في التوعية. وبالنسبة للجرائد والمجلات أكد أن أغلبيتها وضعت لتناول الأحداث والظواهر وبالتالي يلزمها هي الأخرى الوعي والإدراك فيما تنشره، علما أن بعضها هو في خدمة القارئ ويفيده، وأخرى تبحث عن المغاير وعن الأحداث السلبية المؤلمة أو عن الفضائح، لكن ورغم كل ذلك حسبه فالكمال لله وبالتالي لم نصل بعد إلى القمّة ونحن في الطريق بشرط أن يكون لكل جريدة رسالة وعليها أن تكون الأفضل، ويقول البروفيسور شطوطي، إن الجريدة هي لسان حال الشعب، وعلى الصحفي أن يكتب الإيجابي قبل غيره وعليه أن لا يخدش حياء المجتمع ويأخذ الأمور بلطف، وحينها تتحول الجريدة إلى مدرسة للوعي لا أن تحمّل الناس الهم، ويضيف «على الصحفي إذا تبنّى أية حرية أو مسؤولية نقول له حذار، لابد أن تكون بنّاءة لاتجرح بل تقنع وتقتنع. الحرية اليوم أصبحت كشف لعيوب الآخرين وتسمى بالسبق والاحترافية، ولاتراعي في ذلك ظروف الناس الذين تطاردهم وأحيانا يتناول الصحفي كل ذلك من خلال ما يسمعه فقط أي من القيل والقال وكم رأينا من صحف تنشر تكذيبا أو استدراكا تغطي به تجاوزها لهذه الحرية. يخلص المتحدث إلى أنه من الواجب اعتماد حرية بنّاءة ذات وجهة ايجابية وناصحة ورافعة لقيمة الإنسان مما هو فيه بعيدا عن الانتقام. كما أن الحرية تقابلها المسؤولية لذلك من الواجب مراعاة الألفاظ التي لا تجرح الناس من وزيرهم إلى غفيرهم ونحترم المقومات الاجتماعية والوطنية والإنسانية، ووضع الحرية ضمن إطار الإصلاح لا الهدم، مع احترام الآخر والتحلّي بالتواضع فالصحفي قد يستفيد من خبرة الفلاح وعليه أن يثمّنها. ويحرص المتحدث على جانب المهنية، ويؤكد أنه لا حرية مطلقة بل حرية بنّاءة مسؤولة تبني المجتمع وتتجنب إطلاق الأحكام والفتاوى والتجريح. الدكتورة رشيدة بشبيش (أستاذة بمعهد علوم الإعلام والاتصال): خلط واضح بين الخبر والإشاعة والدعاية ترى المتحدثة أن هناك ترابطا بين الحرية والمسؤولية، كما تؤكد أن الإشكال مع طلبتها في معهد علوم الإعلام والاتصال هو أنهم يتخرجون إلى عالم الشغل وهم مشوشون بين السبق الصحفي وبين مسؤوليتهم كصحفيين ومدى تعاملهم مع الحقيقة. أعطت الأستاذة مثالا عن تقرير أمني يوضح العلاقة الترابطية بين ظاهرة الانتحار وما عرف بلعبة الحوت الأزرق، وبالتالي على الصحفي أن يلتزم بنتائج التحقيقات الأمنية وأن لا يتحول هو إلى محقق بوليسي وهو لا يلتزم بالإجراءات الجنائية، وبالفعل فإن التعامل مع هذا الموضوع من قبل بعض الصحفيين سبّب الفزع والهلع عند النّاس خاصة مع أسلوب الاستباقية الذي انتهجه الصحفيون أي قبل صدور نتائج التحقيقات من الجهات المعنية، وهذا ما يعتبر حسبها ابتعاد عن مفهوم أخلقة الممارسة الصحفية. أضافت الدكتورة بشبيش، أيضا أنها لاحظت خلال الامتحان أن الطلبة لا يفرقون بين الخبر (المعلومة) وبين الإشاعة والدعاية وبالتالي يتطلب الأمر في كل مرة التركيز في كثافة التكوين، فالمعلومة مثلا تعني الخبر الصحفي وغالبا ما تكون من جهة رسمية مراعاة للمصدر كي يتحمّل مسؤوليته وبالتالي يكون الابتعاد عن التضخيم والمعلومات الوهمية. بالنسبة للسبق الصحفي أشارت إلى أنه من اللازم بما كان مراعاة مصلحة المجتمع وذلك بأن نوازن بين السبق والخدمة العمومية (الاجتماعية) بعيدا عن الأغراض الشخصية أو الجري وراء الشهرة والأرباح، والمسؤولية تعني الأخلاق وأي تجاوز يعني نقصا في الاحترافية ونقصا في التأطير داخل المؤسسة الإعلامية. بالنسبة للتكنولوجيا ترى المتحدثة أنها تؤدي إلى مشكل عدم التريث والتحقق في نشر المعلومات، وكذلك بالنسبة لمواقع التواصل الاجتماعي التي تتحجج بها المؤسسات الإعلامية أو الصحفيين كونها مصدرا للخبر أو كونها همزة وصل مع الجمهور يعرف من خلالها طلبات ما يريد هذا الجمهور تناوله أو مشاهدته من أخبار ومواضيع، وغالبا ما تنساق هذه المؤسسات لهذه المطالب خاصة منها السطحية أو غير ذات جدوى، علما أن بعض هذه المؤسسات نفسها هي من كرّست الذوق الهابط في محتواها وجرّت الجماهير إلى مثل هذه المواضيع فأصبح يطلب منها ما عودت عليه الجمهور لا أكثر ولا أقل. أكدت المتحدثة أن الإعلام هو صورة البلد لكن ساعات البث مثلا أصبحت تنتهج سياسة ملء الفراغ فتخلق الأحداث التي هي أحداث إعلامية وليست اجتماعية، وبالتالي فإن الإشكال المطروح لا يتمثل في الحرية بل في المسؤولية وهنا تقول: «لقد تجاوزنا مرحلة التعبير والحرية إذ أن مواقع التواصل والتكنولوجيا وفرت للمواطن هذا الحق، لكن يبقى تفعيل نظرية المسؤولية الاجتماعية وبالتالي أخلقة الممارسة الإعلامية ورعاية الصالح العام». تؤكد السيدة بشبيش، أن العمل ينطلق من تكوين الصحفي وبالتالي يجب تدعيم بعض المواد في المنهج منها قوانين الإعلام وأخلاقيات الصحافة، وغالبا فإن الصحفي الخلوق لا يحتاج للردع. كما يتم التركيز على الصحفي مؤرخ اليوم ودعمه بالروح العلمية في المعالجة الإعلامية وبمعلومات موثقة تكسبه الثقة تطبيقا لنظرية «الحقائق مقدسة والرأي حر». ❊مريم .ن