الاحتفال باليوم العالمي لحرية التعبير هو مناسبة للتقييم والتقويم، أين نحن، ماذا نريد، بعد ربع قرن تقريبا من إقرار التعددية الإعلامية؟ الجواب تصنعه مجموعة حقائق بارزة، من خلال استعراض مسارات صحافتنا الوطنية، وبالتالي تحديد ماذا تحقق وما ينبغي أن يتحقق.إن مواطن هذا الزمن، وخاصة شباب المعلوماتية والتواصل الاجتماعي والمواطن الرقمي له رأيه، وعندما يمنع من إبداء رأيه فإنه يلجأ إلى وسائل أخرى وجهات أخرى ليستعلم لديها أو ليدلي فيها بذلك الرأي، وقد رأينا كيف أن المشاهد الجزائري، كان طيلة سنوات عديدة مهاجرا إلى قنوات أجنبية، مما قد يجعله عرضة للتضليل. ولا يخفى بأن الحياد غير موجود في الصحافة، فالفضائيات لا تفلت من تأثيرات المال أو السياسة أو كليهما معا، كما أننا نعلم جيدا كيف أن قنوات عالمية ومشهورة قد تقمصت العلم الأمريكي في الاعتداء على العراق، وكذلك ما تقوم به قنوات عربية في التسويق لما تسميه الثورة أو الربيع العربي، وهذا ما يحصل في سوريا وقبلها في ليبيا والعراق والسودان، حيث نجد أن هناك ''وسائل إعلام مستعدة لاستغلال كل ما هو قابل للتسويق حتى ولو أدى ذلك إلى تعريض استقرار بلد ما للخطر''. لذلك، فإن النضال من أجل صحف وطنية مهنية ومحترمة وملتزمة بأخلاقيات المهنة، والنضال من أجل تلفزيون وطني تعددي ومحترف، كفء وذي مصداقية، هو تماما مثل إعداد جيش قوي أو بناء منظومة تربوية تضمن التكوين الجيد لأبنائنا أو منظومة صحية تسهر على عافية وصحة المواطنين، ذلك أن ترك الساحة فارغة أمام قنوات أجنبية يمثل خيار انتحاريا. إن من الأفضل لنا، سلطة وأحزابا، مولاة ومعارضة، أن يكون لدينا إعلام وطني تعددي ومتنوع وحر، إذ أنه لا صحافة بلا حرية ولا حرية بلا صحافة حرة، وقد ثبت بالدليل أن الصحافة الببغائية لا تصنع رأيا ولا تترك أثرا ولا تخدم وطنا. إننا نتوفر على صحافة مكتوبة، هي اليوم مفخرة للجزائر، رغم الكثير من المآخذ، ويكفي أن المواطن لم يعد يبحث عن أخبار بلاده في تلك الصحف الأجنبية، وأصبحت للجزائر قنوات تلفزيونية خاصة، وهي تتكاثر بسرعة، وحتى إن كان أصحابها اضطروا إلى تأسيسها في الخارج، في انتظار صدور القوانين التي تنظم هذا النشاط، فإن السماح لهذه القنوات بالعمل في الجزائر كان إشارات قوية على أن عهد الانفتاح قد بدأ بالفعل ولا مجال للعودة إلى الوراء، وهذا ما أكدته التجربة خلال الرئاسيات، حيث أن الجزائريين قد عادوا إلى البيت الجزائري. إننا في عالم زالت فيه الحدود ونُزعت الأسقف وتحول إلى مجال افتراضي تنتقل فيه الصور والكلمات بدون رقابة أو حواجز، ولذلك علينا أن نواكب هذه التحولات حتى لا تصبح صورة بلادنا بلا ضوء، منكفئة على نفسها.إن الشعب الجزائري الذي ضحى بالملايين من أجل استقلاله هو أجدر الشعوب بصحافة وطنية حرة، تكون عين السلطة والمجتمع، إذ يعتبر الاعلام المنبر الرئيس للديمقراطية وللسوق الحرة للأفكار وللرأي والرأي الآخر، فهو مؤسسة تسهر على تنوير الرأي العام الذي يعتبر السلطة الحقيقية في المجتمع. لذلك، فإن ما قد يتولد عن حرية الرأي والتعبير من تجاوزات لا يُعالج بالغلق والمنع والقمع، بل يعالج بالمزيد من جرعة الحرية، هذه الحرية التي انتزعها أهل المهنة، رجالا ونساء، بالنضال والتضحيات. إن حرية التعبير، التي نحتفي بيومها العالمي، هي مكسب يجب حمايته وتعزيزه، وفي الوقت نفسه ينبغي أن نعمل جميعا من أجل أن تكون تلك الحرية واعية وصادقة، تحرص على المصلحة الوطنية، ولتكن تعددية الرأي والعناوين والقنوات فرصة للتنافس في خدمة الوطن والمواطن. إن الاعلام لا يكون أبدا في تناقض مع المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، فبقدر تأثره بها يظل مؤثرا فيها ومن المحركات الفاعلة في الوعي الجماهيري، ومن هذا المنطلق يجب أن تكون الصحافة في بلادنا واحدة من السلطات الفاعلة في المجتمع، التي تضطلع بمهمة المراقبة وكشف الحقائق والوقوف أمام الفساد والتجاوزات واستغلال النفوذ، بالإضافة إلى المساهمة في إشاعة ثقافة الاستقصاء والنقد والكشف عن الحقيقة. وبما أننا نتحدث عن حرية التعبير، تجدر الإشارة إلى أن الصحافة ليست قاضيا ولا شرطيا، ولا نقابة ولا حزبا، بل إن دورها الأساسي هو الإعلام بالمعلومة الصحيحة، كما أن الصحفي ليس فوق القانون، بل هو في خدمة القانون، أيضا فإن حرية التعبير هي معطى غير نهائي ويبقى مهددا بالانتكاس، مما يتطلب نضالا متواصلا لترسيخه، من خلال الدعم المستمر ركائز هذه الحرية.لقد انتقلنا من قوانين الاعلام القامعة للحرية إلى قانون إعلام يكرس الحرية، مما يلقي على كاهل المهنيين مسؤوليات جديدة، للارتقاء بصحافتنا الوطنية إلى مستوى المعايير الاحترافية الدولية. وبهذه المناسبة، علينا أن نستلهم ما قاله أحد الكتاب، ويدعى أناتول فرانس: ''عليكم أن تعطوا الحرية للصحافة، ليس للصحافة العاقلة فقط، بل للصحافة كما هي، عاقلة أو حمقاء، لأن الصحافة تعبر عن رأي الأمة، فهي مثل هذا الرأي: متنوعة، متناقضة، عادلة، ظالمة، سخيفة، عنيفة، إنها ضمير العامة كما هي ضمير الخاصة وأهل الذكاء، إنها المرآة التي يرى فيها كل امرئ نفسه ظاهرا وسط جميع الناس، فيقارن نفسه بغيره ويحكم نفسه بنفسه''. إن التطورات التي جرت خلال الأعوام الأخيرة قد فتحت الباب أمام عهد جديد في مجال الممارسة الإعلامية، وقد حان الوقت، وهو مناسب بكل المقاييس، لبناء منظومة اتصالية، حاملة لرسالة وطنية، قادرة على المنافسة وتقديم خدمة إعلامية عمومية متطورة، متحررة من كل الوصايات، تقوم على خدمة المواطن من خلال تزويده بالحقيقة وتكون ذلك الصوت الوطني الذي يصل إلى عقول وقلوب الجزائريين. كل عام وصحافتنا الوطنية وحرية التعبير بألف خير.