لم تعد المائدة الرمضانية القسنطينية سائدة كما كانت من قبل، فقد كانت سنة مؤكدة أن تكون شوربة "الفريك"، أو كما يطلق عليها بالعامية "الجاري فريك"، على مائدة الإفطار طيلة الشهر الفضيل، فلا يستغنى عنها باعتبارها الطبق الرئيسي على المائدة، حيث كانت تقول الجدات "ثلاثون برمة جاري وثلاثون كسكاس مسفوف"، غير أنه ومع مرور الوقت، والتطور الحاصل في أيامنا، عوض هذا الطبق بأنواع أخرى من الحساء، فدخلت "الحريرة" و"حساء الخضار والدجاج" وغيرها من الأنواع، أجندة العديد من العائلات القسنطينية، فصارت الموائد مقسمة لكل يوم من رمضان نوع من أنواع الحساء. بررت العديد من ربات البيوت هذا التغير، بالابتعاد عن الروتين من جهة، وإراحة المعدة من جهة أخرى، باعتبار أن "الجاري فريك" ثقيل نوعا ما وقد يضر بالقولون، خاصة أن مكوناته كلها من القمح اللين، فيما قالت أخريات أنهن يجدن صعوبة في تحضيره، فالجاري يأخذ وقتا طويلا في التحضير وله طرق خاصة، كونه يحضر في قدر من الطين، وعلى نار هادئة، وبمقادير مضبوطة، وهن عاملات ليس لديهن الوقت الكافي لتحضيره يوميا، أما الفئة الثالثة، فقد بررت تركها ل"الجاري" بفيروس "كورونا"، حيث أكدن أنهن ومنذ ظهور الوباء في رمضان الفارط، بتن يبحثن يوميا في الأنترنت على وصفات صحية ومفيدة تقيهن وعائلاتهن من الفيروس، متبعين بذلك حمية غذائية مفروضة من قبل أخصائيي التغذية، وهو ما لم يتفق مع كبار السن في المدينة، الذين يرفضون التخلي عن سنة "جاري الفريك" التي تعتبر سنة موروثة. السيدة (حنيفة.ح)، ربة بيت في عقدها الخامس، من مدينة الخروب، أكدت أن شهر رمضان يحظى باستقبال خاص في عاصمة الشرق، على غرار باقي ولايات الوطن، كل حسب عاداته وتقاليده المتوارثة من جيل لآخر، حيث قالت، إن أهم شيء في هذا الشهر بعد العبادة والصلاة؛ المائدة التقليدية التي تحضرها وتحرص على تلقينها لبناتها، للمحافظة على العادات والتقاليد القسنطينية، الخاصة بأكلات هذا الشهر الفضيل، على غرار "شباح الصفرا"، "طاجين العين" و"طاجين الرخام"، وهي الأكلات المشهورة والمحبذة في رمضان. أما عن الطبق الرئيسي، وهو "الجاري فريك"، فقالت إنه لا يستغنى عليه طيلة الثلاثين يوما على مائدة فطورها، فهو سلطان المائدة في رمضان، حيث تقول بأنها تعلمته على يد والدتها، كما أنها تحرص على تلقين بناتها وحتى كنتها أسرار التحضير، مؤكدة أنها وكغيرها لا تحس بنكهة رمضان، إلا إذا طحنت "الفريك" بمطحنة "الشط" المعروفة بوسط المدينة لتحضيره، حيث قالت إنه ورغم التطور وتوفر "الفريك" الجاهز بالمحلات التجارية، غير أنها لا تستمتع إلا إذا صنعته أناملها وطحنته المطحنة. وهي العملية التي دأبت عليها قبيل أسابيع من رمضان، إذ تقوم بشراء القمح اللين ولونه أخضر، وتقوم بتحميصه، ثم غسله جيدا بالماء الصافي، قبل أن يتم تمليحه وتجفيفه تحت أشعة الشمس، ثم طحنه وغربلته، ليصبح جاهزا للاستخدام اليومي ل"شوربة الفريك". أما السيدة رفيقة، ربة بيت في الأربعين من عمرها، فقالت بأن إصابتها في رمضان الفارط ب"كورونا"، جعلتها حذرة كثيرا في أكلها، حيث قالت، إن تقوية المناعة تعتبر أهم سبل الوقاية من الإصابة بالفيروس "كورونا"، بعد التزام التباعد الاجتماعي والنظافة الشخصية، فالجسم يحتاج إلى مده بالفيتامينات والمعادن والعناصر الغذائية المهمة لتقويته لمواجهة الإصابة بالفيروس، لذا عمدت إلى اتخاذ وعائلتها الصغيرة، حمية غذائية خاصة خلال هذا الشهر الفضيل، بعد ظهور وارتفاع الإصابات من جديد، حيث اختارت عددا من أنواع الشوربة التي تناسبها منذ دخول رمضان، على غرار "شوربة الدجاج"، وهو طبق شوربة مختلف، يتكون من الدجاج، باعتباره المكون الرئيسي، بالإضافة إلى عدد من البهارات الخاصة والقليل من الخضر كالكوسة والبطاطا، الفلفل الحار، والليمون الأخضر للزينة، وهو الحساء، حسبها، الذي يوفر قيمة غذائية مرتفعة، تتمثل في الألياف التي تساهم في الشعور بالشبع، وانخفاض السعرات الحرارية. وهو الحال بالنسبة لحساء الخضار، فهي أكثر أنواع "الشوربات" شهرة وفائدة وسهولة في الإعداد والطهي، رغم غلائها، إلا أنها تقوم بتحضيرها كل ثلاثة أيام، بالنظر إلى القيمة الغذائية العالية، بفضل احتواء هذا الطبق على ألياف غذائية وبروتين وكربوهيدرات صحية تمد الجسم بالطاقة، والمناعة، إلى جانب دخول نوع آخر من الشوربات إلى أجندتها اليومية، وهي شوربة الشوفان التي قالت إنها تعتبر من ألذ وأهم أنواع الشوربة في علاج الزكام والتهاب الحلق، تتكون من قطع الدجاج، والبصل والجزر وحبوب الشوفان والبقدونس وزيت الزيتون والذرة، وهي بذلك اختارت لعائلتها كل ما هو صحي. في المقابل، تحدثت السيدة (لامية.ح)، عاملة في شركة خاصة للدواء، عن الانتقادات اللاذعة التي تتعرض لها من قبل حماتها وأهل زوجها في كل رمضان، بسبب "شوربة الفريك" التي لم تتمكن يوما من تحضيرها بالطريقة الصحيحة التي تلق استحسان وإعجاب عائلة زوجها، حيث قالت إنها تنازلت لحماتها عن تحضير الطبق مقابل تحضير أطباق أخرى. أما زميلتها في العمل، السيدة نور، متزوجة منذ خمسة أشهر وهي من مدينة وهران، فأكدت أن العادات والتقاليد تختلف من منطقة لأخرى، وأنه من الصعب التأقلم بسرعة مع عادات كل عائلة، لذا فهي تحرص على تعلم الأطباق التي يحبها زوجها، قائلة "حضرت نفسي مسبقا لكي أتجنب أي تعليق من زوجي وعائلته"، فأحيانا تقوم بتحضير أطباق مدينتها، وأحيانا تعتمد على حماتها في مساعدتها في الأطباق القسنطينية المشهورة، كما قالت إن "الحريرة" وجدت صدى في بيت زوجها، حيث باتوا يطلبون منها إعدادها بدل "شوربة الفريك" المشهورة. أما السيدة هبة، عاملة بمؤسسة "بريد الجزائر"، فقالت إن ضيق الوقت وانشغالاتها مع أولادها وعملها خارجا، حتم عليها أحيانا الاستغناء عن الجاري وتعويضه بحساء "الدويدة البيضاء" أو حساء الخضر، أما إذا أصر زوجها على "شوربة الفريك"، تقول أنها تخصص العطلة الأسبوعية للطبق، أو تلجأ إلى تحضيره ليلا من أجل كسب الوقت والتقليل من الأعمال المنزلية التي تنتظرها، حيث أضافت أنها تقوم بإعداد كمية كبيرة من "الشوربة" تكفي ليومين أو ثلاثة أيام، ولا يبقى سوى إعداد الطبق الثاني، بالإضافة إلى السلطة، وهو حال العديد من العاملات.