ما زال أرسطو مثارا للحيرة في أعماق نفسي. كيف استطاع هذا الإنسان أن ينجز مؤلفاته العظيمة، وكيف استطاع أن يكون مؤدبا وأستاذا لأحد عظماء القادة في التاريخ الإنساني، وأعني به الإسكندر المقدوني، وكيف كان ينظم أوقاته؟ لم أضع اليد حتى الآن على بحث يرصد حياة هذا المفكر لحظة بلحظة، وسنة بسنة. جميع الكتابات التي وضعت عنه تتحدث عن منجزاته الفلسفية في المقام الأول، أما السبل التي انتهجها فلا إشارة إليها، ولكأننا به ولد واقفا، وانتهى واقفا أيضا، كما يقال في مثل هذه الأحوال. بل، وكيف عجز هذا المفكر الذي ما زال يلوي عنق الإنسانية بنظرياته الفلسفية -كيف عجز- عن ضمان مستقبل كريم لنفسه في آخر أيامه وهو الذي دان له الفكر البشري في عصره وبعد عصره بالعديد من الأفكار التنويرية؟ أجل، اضطر أرسطو للهرب بجلدته بعد أن وقعت التهمة عليه بأنه متمرد على الأصول الدينية والأخلاق المتعارف عليها على غرار التهمة التي ألصقت قبله بالفيلسوف سقراط. التفاصيل هي التي تصنع الحياة كما يقول بعض كتاب الرواية في زمننا هذا، ولذلك، فإنها هي التي صنعت أرسطو وجعلت منه منعطفا لا بد من اللف حوله لبلوغ هذه الغاية الفكرية أو تلك. لكننا لا نكاد نعثر على شيء من هذه التفاصيل التي وضعت عنه. وهو في هذا الشأن أشبه ما يكون بقرنائه من أهل الأدب والفلسفة في العهد الإسلامي الزاهر. نقرأ عن المعري، على سبيل المثال، أنه أنجز هذا المؤلف أو ذاك، وأنه كان ذا باع طويل في جميع ما يتعلق باللغة العربية ودقائقها، لكننا لا نعرف شيئا عن السبيل التي انتهجها لكي ينال تلك الأستاذية كلها في الشعر وفي النثر وفي التفكير الفلسفي عامة. بل إننا في بعض الأحيان لا نكاد نعرف تاريخ ولادة هذا العبقري أو ذاك، ويطالعنا بعض الباحثين والمنقبين بآراء أقل ما يقال عنها إنها تهويمات لا تستند إلى أسس المنطق. هل النزاهة الفكرية تدفع بصاحبها إلى أن ينسى نفسه ومستقبله في خضم هذه الحياة على غرار ما فعله أرسطو وغيره من رموز الفكر الإنساني عبر جميع الأزمنة والأمكنة؟ إذا كان سقراط قد رضي بالحكم الذي أصدرته أثينا في حقه، أي الموت بشرب السم، ولم يفكر في الهروب أصلا، مع أن تلاميذه ومريديه هيأوا له سبل الفرار، فإن أرسطو فكر دون شك في الإنتقال إلى جهة أخرى عن رغبة منه في مواصلة جهوده الفكرية، غير أنه مات في حالة من الذلة والهوان. ولعله ندم على ما فرط منه حين أحجم عن التفكير في ضمان مستقبله. وذلك ما يحدث في كل عصر ومصر، ولهذا السبب تبدو سيرة بعض العظماء باعثة على الذهول. وما زلت محتارا في أمر أرسطو، هذا العقل الجبار الذي أقعدته الصرامة الفكرية عن ضمان شيخوخة مريحة لنفسه في مكان ما من أرض اليونان.