يعد التسكع من المشاهد التي تشكل جزءا من الحياة اليومية في مجتمعنا، وغالبا ما يكون تسكع الشباب على أرصفة الشوارع والمقاهي وأمام المحلات التجارية من دون هدف معين، وهو أمر يشترك فيه كلا الجنسين، حيث يظهر المشهد العام صورة حشود هائلة معظمها من فئة الشباب تبدو وكأنها تريد الذوبان في الازدحام لحاجة في أنفسهم.. هي حاجة تدعو إلى كشف النقاب عنها للوقوف على الأسباب التي تدفع بشريحة أساسية في المجتمع إلى هدر طاقاتها بالاتجاه نحو "اللاهدف"؟ "المساء" استطلعت آراء بعض المختصين في علم النفس لتفسير هذه الظاهرة. استوقفني مؤخرا مشهد أحد المواطنين وهو يصرخ تعبيرا عن تذمره من الأعداد الهائلة التي أقلت القطار من محطة الرويبة للتوجه نحو العاصمة، حيث تحولت وسيلة النقل إلى ما يشبه علبة سردين.. وكان من ضمن ما قاله ذلك المواطن الساخط: " أنا متأكد من أن نسبة معتبرة من الراكبين ليس لديهم أي هدف من التنقل إلى العاصمة ماعدا التجول!".. وهنا تصح الوقفة لمناقشة الموضوع. التسكع هروب من أين وإلى أين؟ رغم أنه من الطبيعي أن ينجذب الشباب نحو بعض الأماكن على غرار المقاهي، الحدائق العمومية، نوادي الأنترنت والمجمعات التجارية لقضاء بعض الوقت في الدردشة والتنفيس عن الرغبات، لكن ليس من المعقول أن يتحول حب التسكع إلى "هواية" أو إدمان يمارسه كثيرون في مختلف الأماكن العمومية دون التفطن إلى نتيجة ذلك، والتي تلخصها مقولة "الزمن لص ظريف يسرق شبابنا"!..، فعند تسليط الضوء على هذه الظاهرة يبدو جليا أن أعدادا كبيرة من الشباب المتسكع يؤذون البيئة، يكسرون بعض الممتلكات العمومية ويزاحمون الناس في الأسواق دون هدف الشراء. تبدو مشاهد الأشخاص الذين يتسكعون في الشوارع جلية، خاصة عندما تسفر عن إيذاء الآخرين بالتعاليق ومضايقة الفتيات بالمعاكسات والمطاردات.. وفي هذا الشأن تعلق السيدة "سلوى. ط" خبيرة قانونية: "إن تسكع الشباب ظاهرة ندفع ثمنها بالإزعاج الذي يطالنا في عدة أماكن عمومية على غرار البلديات، مصالح البريد ووسائل النقل وحتى في الحدائق العمومية التي نتجنب الاستراحة فيها حتى في حالات الإعياء الشديد بسبب المضايقات." وتضيف المتحدثة: "إن هذا الإزعاج الذي يعطل مصالحنا في الكثير من الأحيان يصدر غالبا من أشخاص ليس لديهم أي هدف ماعدا ملء الفراغ، والجدير بالذكر في هذا الإطار هو أن الفتيات من أكثر الفئات التي تدفع ثمن هذه الظاهرة، حيث يحلو للعديد من المتسكعين الوقوف أمام بوابات الجامعات لترصد حركات الطالبات." للظاهرة أضرار وفوائد من جهتها، تقول دكتورة مختصة في علم النفس الاجتماعي بجامعة الجزائر طلبت عدم ذكر اسمها: "يجب الانتباه إلى أن التسكع ظاهرة لها أضرار كما لها فوائد، لذا يجب أن نفرق بين الحالات التي تكون فيها إيجابية والحالات التي تكون فيها سلبية، حيث يكون التسكع إيجابيا عندما يلجأ إليه الفرد بالغرض الذي يسمح بتفريغ الطاقة السلبية للتنفيس عن الكبت النفسي وتجديد النشاط، في حين يكون التسكع سلبيا حينما يدمن عليه الفرد إلى حد إرهاق نفسه بغرض قتل الوقت، وهو أمر يعتمد على شخصية الفرد، فالإنسان الذي تكون لديه شخصية صلبة ومسؤولة فهو بالتأكيد يستطيع ان يستغل وقته جيدا ويعرف كيف يواجه الفراغ وعدم الاستسلام لتأثيراته، وذلك على خلاف الشخص الذي يعرف بالمتسكع، فهو أساسا هش الشخصية لديه قصور في ضبط سلوكه ويحاول أن يقضي وقته هاربا من الفراغ، فيسير في الشوارع هائما من دون هدف معين، أو يقصد أماكن أخرى في غياب من يتكفل به.. ومن هنا يبرز الخطر، حيث أن التسكع قد يكون على المدى الطويل بوابة للالتقاء بشلة السوء، ما يجعله فريسة سهلة لمثل هذه الجماعات التي تصطاد هذا النوع من الأشخاص، حيث يبدأ الخطر غالبا بعد التسرب من المدارس والوقوع في دائرة البطالة".
الافتقار إلى المناعة النفسية وتضيف الدكتورة: يعد طول عمر الإدمان على التسكع الذي يمارسه كلا الجنسين بمثابة انتحار بطيء يهدد باللجوء إلى الانتحار الفعلي، لأن مرحلة الفراغ لها تأثيرات لا يستهان بها ليس أقلها الافتقار إلى المناعة النفسية التي تفتح أبواب الوقوع في الآفات الاجتماعية، لاسيما بالنسبة للشخصية الهشة التي تعيش في وسط أسري غير سوي وفي وسط جماعات مستهترة. وحسب وجهة نظر الأستاذة الجامعية، فإن الأسرة لها الدور الأول في تربية الأولاد وغرس القيم الدينية والأخلاق الحميدة فيهم ومراقبة سلوكاتهم وإرشادهم، لذا ينبغي أن تكون يقظة حتى لا يقع الأبناء في حلقة مفرغة، ذلك أنه كلما كانت متفتحة وحريصة على الإصغاء وتقديم الدعم المعنوي كلما تمكن الأبناء من المقاومة، حيث أن وقاية النشء تتوقف على التنشئة الاجتماعية السليمة التي تمنحه المناعة والشخصية القادرة على التحدي. ولا تعتبر الأسرة المسؤولة الوحيدة عن التصدي لظاهرة التسكع السلبي، إذ يجب إيجاد فضاءات أخرى للإصغاء إلى هذه الشريحة وتسطير استراتيجيات لاستقطاب الشباب، فالفرد الذي لم يستغل قدراته في المجال الدراسي قد تكون لديه استعدادات كامنة لكنه يحتاج إلى من يساعده على تفجيرها. وفي نظر الدكتورة فإنه بالإضافة إلى الدور الأساسي الذي يجب أن تلعبه الأسرة لاسترجاع الأبناء وإنقاذهم من تبعات التسكع السلبي، ينبغي أيضا لوسائل الإعلام أن تركز على برامج التوعية لوقاية الشباب من خطر الآفات الاجتماعية.
نقص الوعي الثقافي وبرأي الدكتورة منيرة زلوف، أستاذة جامعية مختصة في علم النفس، فإن ظاهرة التسكع التي ترتبط بأسباب اجتماعية واقتصادية في آن واحد، تترجم نقص الوعي الثقافي في ظل عدم إعطاء أهمية للثقافة، إذ تجذب مطالعة الكتب والاطلاع على مواقع الأنترنت في الغالب فئة المتعلمين فحسب. إن هذه الظاهرة تستهدف كلا الجنسين، فالفتاة التي تعاني من الفراغ تبحث أيضا عن محور اهتمام يشغلها، وحتى لا يستمر استفحال هذه الظاهرة لا بد من وضع استراتيجية أو ما نعني به عملية الإدماج بواسطة مختلف الهياكل التربوية والإعلامية مثل تكثيف البرامج في دور الشباب وتكثيف نوادي الأنترنت في مختلف الأماكن والأحياء. وتدعو الدكتورة منيرة زلوف إلى ضرورة الانتباه إلى مسألة تنويع الاختصاصات في مراكز التكوين المهني ليجد كل متسرب عن المدرسة ما يتوافق وميولاته ورغباته، مما يحول دون تفكيره في مغادرة مقاعد مراكز التكوين المهني كما هو الحال مع بعض الشباب ممن لم يجدوا التخصصات التي تستجيب لاستعداداتهم الكامنة، حسب المختصة.