عاد من السويد بعد أكثر من أربعين عاما من الغياب، ولكن في زيارة قصيرة ليس إلا. معه طفلتان لا تعرفان كلمة واحدة من اللهجة الجزائرية لأنهما من الأرض التي يتعاورها الليل طيلة ثمانية أشهر حتى إن نفوس الخلق تتشقق فيها، وتصاب بالكثير من الاضطرابات النفسية. أول شيء فكر فيه هو النزول إلى البحر، وإلى صخور الأميرالية بالذات لأنه نشأ وترعرع فيها، وعايشها وعايشته، وسرت في دمه. وثاني شيء فكر فيه أيضا هو النزول رفقة عدد من أصدقائه الأوائل الذين تربى معهم في حي القصبة. ذهب إلى فرنسا بحثا عن لقمة العيش، وهربا من سطوة المظليين الذين يتزعمهم المجرم (بيجار)، ولم يستقر به المقام في أرض المغترب الفرنسي، فانتقل إلى ألمانيا ومنها إلى السويد، حيث ألقى عصا الترحال. لكن الغربة صعبة جدا خاصة إذا ما كان الإنسان في حاجة ماسة إلى أن ينجو بجلدته في عام ,1957 أي عام معركة الجزائر المجيدة. عدد من أصدقائه الأوائل حصدتهم رصاصات المظليين في مختلف دروب القصبة، وعدد منهم أيضا لاقى مصارعه تحت شفرة المقصلة. والتف به رفاقه، رفاق الصبا الأول، في الرصيف الشمالي من أميرالية البحر، يتحدثون إليه حديثا عجيبا فيه الكثير من دلائل الحنان والشفقة، وهو يصغي إليهم جميعا، ويدفع إلى الأمام بصغيرتيه اللتين ظلتا ملتصقتين بركبتيه. قال له عبد الغني، ذلك الذي يسبح صيفا وشتاء وراء صخور الأميرالية: أتذكر المقابلة الكروية التي لعبناها في (صابات العرص)؟ وطفرت الدموع من عينيه فلم تفهم طفلتاه شيئا مما يحدث حواليهما. حضارة الجنرال (ماسو) وقرارات البرلمان الفرنسي باعتبار الاحتلال رحمة على أهل الجزائر، كلها حضرت في طرفة عين على رصيف الأميرالية. وإذا به يدور حول نفسه ويقف في مواجهة المدينة كلها، وحي القصبة على وجه التحديد، ويرسل تنهيدة لا يفهم معناها إلا رفاقه، أو ما تبقى منهم. ألا ما أكثر الجزائريين الذين دفعتهم حضارة فرنسا المزعومة إلى الهروب من ديارهم ! صاحبنا هذا التجأ إلى السويد، وأمضى بهذا البلد حياته كلها، وتزوج هناك ورزق ببنتين بعد أن طعن في السن نسبيا. ولا شك في أن أمل العودة إلى بلده ظل يراوده على الدوام، غير أنه اليوم مضطر لكي يقيم بالديار الصقيعية في الشمال لأنه يستحيل على طفلتيه أن تتأقلما مع ظروف العيش الجديدة التي قد يفرضها عليهما. أحد أصدقائه القدامى أراني صورته وهو في طور الصبا الأول: بذلة لا يحسن خياطتها إلا بعض الإسبان الذين كانوا يجوبون شوارع العاصمة لبيع أقمشتهم، وربطة عنق مهفهفة، وحذاء أسود براق، ويجمع ذلك كله وجه مستدير تستقر فيه عينان سوداوان تحدقان في المستقبل، وأي مستقبل ! إنها صورة الإنسان الجزائري الذي طحنته الآلة الاستعمارية، وهي أيضا صورة الإنسان الجزائري، وقد طحنته دواليب الحكم الذي لا يعرف معنى الحكم الحقيقي.