التأثير الكبير للتكنولوجيا على مجالات الثقافة لا يلقى استحسان الجميع، فإذا كان البعض يعتبره مفيدا وحتى قيّما، فإنّه يشكّل بالنسبة للبعض الآخر تهديدا حقيقيا لكل ما تحمله هذه الثقافة من رموز الشخصية الوطنية والتراثية بصفة عامة·· فما هي طبيعة تأثير الوسائط الحديثة على الثقافة فكرا وتطبيقا؟، هل يمكن أن تكون التكنولوجيا مفيدة وقاتلة للثقافة في آن واحد؟، وماذا عن واقع ومستقبل الوسائل التقليدية للثقافة في هذا الزمن الراهن؟ محاولة منا إيجاد إجابات لهذه التساؤلات، تحدثنا مع الفيلسوف الفرنسي والمختصّ في التكنولوجيات، الأستاذ آلان جيفار والدكتور في الإعلام والاتصال ومدير ميدياتيك "زينك" بمرسيليا، إيمانويل فرجاس، اللذين شاركا في اليوم الدراسي "الثقافة وتكنولوجيات الإعلام" الذي نظمته مؤخرا مؤسسة "فنون وثقافة"· آلان جيفار: أمام الثقافة مشاكل تتحوّل إلى كارثة يجب على المؤسسات والجماعات التي تعلق أهمية على المقاربة التقليدية للثقافة، أن تقول كلمتها حول ما يتطوّر ثقافيا من جانب الرقمية، فالقراءة مثلا هي في حال سيء، لأنّ الجمهور يواجه لوحده المؤسسات المختصة في صناعة المعلومة، وهذا شيء جديد لأنّ نشاط القراءة كان دائما منظّما من طرف المؤسسات والسلطات الحكومية، ولدينا تكنولوجيا لم تكتمل معالمها بعد، بالمقابل يوجد خطر أقارنه بخطر الكارثة البيئية، فهي كارثة بيئية للفكر، هذا الخطر لا نراه الآن جيّدا لأنّ له علاقة بعمر المستعمل حيث توجد أربعة مجموعات - ولا أعطي هذا التقسيم فقط حسب العمر - المجموعة الأولى لا تريد أن تسمع إطلاقا عن التكنولوجيا، المجموعة الثانية تعتبر التكنولوجيا والرقمية نظاما مستعملا في هذا الزمن الراهن فتتبعه، والمجموعة الثالثة التي تضم في أغلبها شريحة الأطفال، تتأرجح بين ضفتين، فمن جهة يوجد العالم الكلاسيكي للثقافة ومن الجهة الثانية هناك العالم الرقمي، فيمكن أن تكون نوعا ما كالمصابة بمرض انفصام الشخصية، وهو حالة معظم الشباب، فهم يعلمون أنّ العالمين موجودين ولا يتسرّعون في التخلي عن الأشياء التي لا تسير بشكل جيّد، وهناك المجموعة الرابعة التي يعتقد المنتمون إليها، وهم بالأخص من الشباب، أنّ التكنولوجيا الرقمية هي تكنولوجيا المرجع، وأنّ ما نفعله من قراءة وكتابة على الانترنت هو النموذج الذي بجب أن نتّبعه، وهنا يوجد خطر حدوث الكارثة، لأنّهم أناس يتظاهرون بالقراءة والكتابة، فحتى في شهادات الليسانس هناك طلبة يقومون بأخذ مواضيع يجدونها في الواب وينسبونها إلى أنفسهم··· ومع ذلك فالثقافة ليست مهدّدة لأنّه من جانب آخر، هناك تغيّرات إيجابية تمسّ الثقافة، ولكن هناك أجيال وشرائح مختلفة الأعمار يمكن أن يضحى بها إلى غاية تحرّك السلطات الحكومية، وكذلك القطاع الثقافي والقطاع التربوي من أجل الثقافة، فمثلا نعيش في المدن حالة كبيرة من التلوّث وإلى حين تدخّل السلطات المختصّة لحلّ هذا المشكل نكون نحن ضحايا هذه المرحلة، لا أعتقد أنّ الثقافة ستنهار، ولكنها تعاني من صعوبات كبيرة، وهناك خطر كبير يقارب الكارثة بالنسبة لبعض الأجيال· أما عن خطر زوال الكتاب وتبديله بوسائط أخرى، أعتقد أنّ الكتاب في العديد من جوانبه يبقى أحسن بكثير من الواب، في الثقافة لا يمكن أن نتكلّم عن البديل فمثلا لم تبدّل المخطوطة بالكتاب، أي أنّ الكلّ له مكانته في الثقافة· إيمانويل فرجاس: التكنولوجيا تساعدنا في حفظ التراث كيف نحافظ على التراث باستعمالنا للتكنولوجيا؟ وأطرح سؤالا آخر كيف ننشئ شخصية جديدة من خلال هذه التكنولوجيا؟ أعتقد أنّ الانترنت هي أداة قبل كلّ شيء وهذه الأداة تضمّ في ذاتها العديد من الرسائل، ومع التكنولوجيات الحديثة والانترنت يمكن لنا أن نستنتج عدة أمور، من بينها قدرة الكثير من الناس كيفما كانت طبيعة عملهم أو شخصيتهم استعمال نفس الآليات المتعلّقة بالتكنولوجيا، سواء كنا نهتّم بالأرشيف، أم كنّا فنانين أو مواطنين عاديين، فمثلا نستطيع أن ننشئ موقعا الكترونيا بطريقة واحدة من الناحية التكنولوجية حتى وإن اختلفت مواضيعه· ماهي الثقافة، كيف يمكن نسج علاقات بين الفنانين والجمهور، بل بيننا جميعا؟، فنحن عندما نكون في مسرح أو في السينما فإنّنا نشكل بذلك جماعة تقصد نفس المكان لنفس الغرض وهو مشاهدة مسرحية مثلا، وبالتالي نؤسّس بذلك ثقافة واحدة، اليوم مع الانترنت أنا في منزلي أشاهد لوحدي ما أريده من دون أن أقاسمه مع أحد، وهنا نشهد ظهور تحد جديد وخطير، يتمثل في ضرورة إنشاء فضاءات جديدة تضمّ أناسا يفكّرون بطريقة جماعية في مجال الثقافة، فالأنترنت يدفع بمستعمله إلى العزلة، لذلك فإنه من دورنا كمثقفين وإعلاميين ومربين التفكير في حلّ هذه المعضلة· بالمقابل، تواجه الثقافة مشكلة في غاية الأهمية، تتمثّل في اعتماد بعض المؤسسات الثقافية ومن أهمها "العملاق غوغل" على الجانب التجاري، بالتالي انتقلنا من مجانية الثقافة إلى إطار آخر تماما يتعلّق بالإعلانات والربح الاقتصادي· أمّا عن تأثير استعمال الانترنت في التراث، فأعتبر أنّه لا يشكّل ضررا كبيرا، بل على العكس تعمل الانترنت على حفظ الذاكرة الجماعية العالمية، أبعد من ذلك، ففي فرنسا مثلا أصبح الإقبال كبيرا على المتاحف حيث تم تأسيس "ماركتينغ" حول المتاحف في فرنسا وإدماجها في المسالك السياحية والاقتصادية، هذا مهم ولكن لدينا مسؤولية التعريف بماهية المتحف الذي نريد وضعه في الواجهة وكيفية إحيائه، أيضا وبما أنّه يمكن لنا بواسطة التكنولوجيا إبداء كل الآراء الشخصية، فلماذا لا نستغل ذلك ونعرّف الغير بتراثنا، ولماذا مثلا لا يوجد عنوان إلكتروني يعّرف بثقافة القناوة ويسعى إلى نشرها؟، يجب إذن إنشاء عناوين إلكترونية حول كل ما نريد حفظه في الذاكرة· الثقافة هي حركة جماعية، والانترنت تمكّننا من نسج علاقات بين الجميع، فلنستغلها إذن، لقد تمّ صنع الكمبيوتر لأجل الإنسان، فلنستعمله ليساعدنا في مجال الثقافة، لن يتحقّق هذا اليوم ولكن من واجبنا طرح مثل هذه التساؤلات· أمّا عن مستقبل الكتاب في هذا الزمن، فلا أعتقد أنّه مهدّد، كالمسرح الذي لم تهدّد وجوده السينما، فقط سنجد طرقا جديدة في الكتابة والنشر، وفي الماضي كان من السهل أن نقرأ في كتاب على أن نقرأ في حجر مثلا، لذلك أعتقد أنّ الدعائم التي يسهل استعمالها ستستعمل بكثرة، ربما بعد 50 سنة لن نقرأ الكتاب التقليدي ولكن الأدب يبقى موجودا·