أزفون التي تعانق جبالها تلالها المترامية في أحضان البحر، ترسم مناظر خلابة تترجم عظمة الخالق وتمنح زائرها الشعور بالسكينة والطمأنينة وتبعد عنه صخب وضجيج الحياة الحضرية، ورغم كلّ ما يمكن الوقوف عنده من عجز في المرافق السياحية وفوضى في العمران إلاّ أنّها تبقى الوجهة المفضّلة للعديد من العائلات الجزائرية وحتى المغتربة منها. تعيش مدينة أزفون (الواقعة شمال ولاية تيزي وزو) على غرار مختلف المدن الساحلية حالة من النشاط والحركية التي عادة ما ارتبط بها خلال فصل الصيف قبل أن يعود الهدوء والسكينة إليها مع حلول الخريف وتتابع الفصول قبل حلول صيف جديد، فأزفون ''مدينة العلم والفنانين'' تستيقظ من سباتها مع حلول الصيف، ويجد ساكنوها مع قدوم هذا الفصل الفرصة للتنفيس عن الروح والجيب، إذ تزدهر التجارة بمختلف أشكالها، الشرعية والموازية، وتعرف حركية كبيرة أبطالها السياح والعائلات المتوافدة بكثرة سواء للتواصل مع العائلة الكبرى أو للتخييم. البداية من ''الضفة الزرقاء '' وأنت تلج أزفون من ولاية بجاية، عليك لا محال أن تمرّ ببني كسيلة (التابعة إداريا لولاية بجاية)، القرية التي ارتبط اسمها بالإرهاب مثلما اشتهرت بشواطئها الخلابة على غرار ''أزغار'' و''كازو''، ولا يمثّل الحاجز العسكري القار الذي يزيّن المشهد عائقا أمام تدفّق المصطافين على بني كسيلة، واتّخاذ غاباتها فضاء للتخييم، وتؤكّد جلّ العائلات التي التقتها ''المساء'' أنّه شتان بين الأمس واليوم، حيث عادت العائلات التي هجرت المكان إلى عادات الاصطياف وقضاء أمتع الأوقات على الشاطئ. الضفة الزرقاء'' هو أولى شواطئ أزفون التي تستقبلك بديكور متميّز، وهو عبارة عن مخيّم عائلي مسيّج بأشجار الضرو، وأهمّ ما يميّز هذا الشاطئ موقعه الاستراتيجي، إذ انّه عبارة عن هضبة تطلّ على البحر مباشرة، وللوصول إلى الشاطئ لا بدّ من النزول عبر سلالم خشبية زادت المكان بهاء، وشاطئ ''الضفة الزرقاء''من النوع الحجري لكن يجد قاصده ما يلائمه وعائلته، فبالشاطئ شبه مسبح طبيعي موجّه بالأساس للأطفال، إلى جانب فضاء للمبتدئين من السباحين، فيما يفضّل العارفون بخبايا السباحة التوجّه حيث المياه أكثر عمقا وذلك بالمشي فوق صخرة مسطّحة للوصول إلى المبتغى. الطريق الوطني رقم 24 المعروف بمنعرجاته الكثيرة الذي يربط أزفون ببجاية شرقا وتيزي وزو غربا عبارة عن طريق يشقّ الجبال بمنعرجات كبيرة، تعرف بعض مقاطعه اهتراء كبيرا وحفرا لا تحصى ويفتقر إلى الإنارة العمومية، وعلى طول هذا الطريق تتوالى الشواطئ وتتعدّد من حيث طبيعتها وتوافد المصطافين عليها، فمن ''الجنة الصغيرة'' ذائع الصيت، مرورا ب''ثزاغارث''، ''سيدي خليفة''، ''القرشي'' وصولا إلى شاطئي ''أزفون المدينة'' و''الخروبة''، ولا تختلف كثيرا الأجواء إنّما تتّخذ أشكالا أخرى، فمن الشواطئ العائلية إلى تلك التي يؤمّها الشباب دون غيرهم، هناك حديث عن الشواطئ المحروسة وتلك التي يقصدها الراغبون في الاستمتاع بالبحر بعيدا عن الأعين. شواطئ بعيدة عن أعين الفضوليين تختلف شواطئ أزفون باختلاف قاصديها، فهناك تلك المعروفة والمفتوحة للسباحة والمتعارف عليها بين العامة، لكن هناك أيضا الشواطئ التي يقصدها سكّان القرى والمداشر المحاذية لشواطئ متوارية عن الأنظار، وتكون في أغلب الأحيان شواطئ صخرية بعيدة عن أيّة مراقبة أو حراسة، ويبرّر بعض الشباب ميلهم نحو هذا النوع من الشواطئ برغبتهم في الحصول على بعض الخصوصية وتجنّب الفوضى والازدحام الذي تعرفه بعض الشواطئ، علاوة على قربها الكبير من منازلهم. قرى ''إغيل محند''، ''لعزيب''، ''اولخو''، ''اشعلالن'' و''إيقجدال'' التابعة إداريا لبلدية آيت شافع تمتاز بارتفاعها النسبي عن سطح البحر وإطلالتها المتميّزة على البحر وعلى واد ''بو ثروة'' الذي يتّخذ عدد من المصطافين ضفيه لنصب الخيم والتزوّد بالماء، هذه القرى التي تعدّ تجمعات سكانية بامتياز خلال فصل الصيف، حيث تقصدها العائلات من كلّ حدب وصوب لتجديد الوصال مع مسقط الرأس والاستمتاع بأجواء الصيف مع العائلة الكبيرة. صيف آيت شافع مخصّص للاستجمام والتقاء العائلات، حيث يتمّ تقسيم زمن العطلة الصيفية بين التوجّه للشاطئ، والاستمتاع بالأعراس والولائم وكذا الاستجمام في الجبال والبساتين مترامية الأطراف بالمنطقة، حيث يحرص الكثيرون على تخصيص الصبيحة للسباحة فيما يخصّصون الأمسية للتجوّل بين البساتين والمشي، وكذا زيارة الأقارب الذين كثيرا ما تجمعهم القرية الواحدة بعد فراق ثلاثة فصول يكون فيها فصل الصيف الجامع الأكبر. صيف بنكهة رمضانية ولأنّ صيف هذا العام جاء مميّزا لتزامنه مع شهر رمضان الفضيل فقد قرّر البعض الاستمتاع ببعض الوقت على شاطئ البحر قبل العودة إلى المدينة واستئناف العمل، فيما ذهب الآخرون في الاتّجاه المعاكس من خلال انتهاج خيار تمضية شهر رمضان في الدشرة كنوع من التجربة لما تكتنفه هذه الخطوة من خصوصية، وهو الشأن بالنسبة لمحمد شريف .ح المغترب بإنجلترا والذي اختار تمضية أيام من الشهر الفضيل رفقة ابنتيه في قرية ''أولخو'' كنوع من التغيير حيث أنّه بالرغم من أنّه ''قصباوي'' إلاّ أنّه اختار أن يخوض التجربة بعيدا عن الضوضاء وما يميّز رمضان القصبة من حركية ونكهة خاصة. وهو نفس حال عائلة '''' التي اختارت هي الأخرى التوجّه نحو مسقط رأس الأب لتمضية بعض الأيام على الشاطئ واستقبال الشهر الفضيل كنوع من التغيير، إذ يحرص ربّ العائلة على أن يجتمع شمل كلّ العائلة لخوض هذه التجربة، تجربة تمضية شهر رمضان في بيئة مغايرة عن المعتاد - ووضع السيد '''' برنامجا يقضي بالتسوّق في الصبيحة من مدينة أزفون التي تبعد عن القرية بحوالي 20 دقيقة، وأخذ قسط من الراحة بعد صلاة الظهر ومع انخفاض درجة الحرارة بداية من الخامسة والنصف مساء يقترح على أبنائه التجوّل بين الحقول والبساتين بحثا عن التوت البري والتين إلى غاية اقتراب موعد أذان المغرب، حيث يخصّص بعض الوقت لقراءة ما تيسّر من القرآن الكريم، لتخصّص السهرة بعد صلاة التراويح للزيارات العائلية ولعب ''الدومينو''. وإذا كان السيد '''' اختار المغامرة فإنّ الكثير من العائلات التي اعتادت الاتّجاه نحو أزفون صيفا، أبدت رفضها فكرة قضاء شهر رمضان في الدشرة، والحجة في ذلك أنّ رمضان لا بدّ له من أجواء خاصة و''تاويل'' خاص، وما المدينة إلاّ الفضاء المناسب له، حيث وفرة المواد الاستهلاكية والفضاءات الترفيهية. أزفون.. بين البارحة واليوم بالرغم من الشهرة الكبيرة كونها مدينة الفن والفنانين، خرج من رحمها الكثير من أهل الفن والثقافة على غرار اقربوشن، حاج مريزق، العنقا، العنقيس، حنيفة، مصطفى بديع، الإخوة حلمي، الطاهر جاوت واسياخم، رويشد، محمد علاوة، بشير حاج علي، عبد القادر شرشام وحميدو، محمد فلاق ممن بصموا تاريخ الجزائر الفني والثقافي، إلا أنّ مدينة أزفون تعيش المتناقضات، فإلى جانب الفوضى العمرانية التي يعرفها وسط المدينة مثلما يعرفها مدخلها الشرقي خاصة خلال فصل الصيف، لا يمكن لزائرها أن يحدّد معالمها فكلّ شيء في هذه المدينة تغيّر. أهل أزفون المعروف عنهم التمسّك بالأصالة والأنفة باتوا قلّة قليلة في مدينتهم، حيث تزايد عدد الوافدين بشكل ملفت للنظر، واختار الوافدون الجدد العمل في التجارة أو الالتحاق بالميناء الجديد، أو حتى اقتناص بعض فرص العمل التي تأتي من حين إلى آخر، كلّ هذه المتغيّرات جعلت عائلات مدينة ازفون يتجنّبون التوجّه نحو شاطئ المدينة أو شاطئ ''الخروبة'' أو ''القرشي'' الذي كان في وقت مضى محجّ العائلات، وباتوا يبحثون عن شواطئ أخرى تجنّبهم أعين الفضوليين، وهو ما وجدوه في ''المنارة'' أو ''ثابلاط نراس'' وغيرهما من الشواطئ الصخرية حيث تنعدم الحراسة. أزفون التي كانت في الماضي القريب ''سويسرا الجزائر'' بسكونها وهدوئها، بطيبة أهلها وكرمهم، بمناظرها الباعثة على الطمأنينة تواجه الآن الإهمال والفوضى العارمة، حيث غاب كلّ ما يوحي بأنّ هذه المدينة مدينة ترنو للأفضل باستثناء بعض المشاريع المترامية، كتهيئة الواجهة البحرية والقضاء على الحانات المنتصبة على طول طريق المدينة، وكذا إعادة تهيئة ''ساحة النافورة'' في مدخل المدينة.. وكلّها مشاريع لم يلمس بعد سكان أزفون ثمارها. أزفون المدينة التي طالما استلهمت الفنانين والكتّاب باتت بلا هوية تعكس عراقتها، فالمهم أن تعلو البنايات - التي في أغلبها فنادق بلا روح - دون الأخذ بعين الاعتبار التهيئة، ولا وجود للأرصفة، وتصطف السيارات بشكل فوضوي على طول الطريق للتسوّق، والمهم بالنسبة للتجار أن يجدوا ما يبيعونه للوافدين بكثرة إلى أزفون خلال فصل الصيف لأنّه بانتهاء الفصل تعود أزفون إلى سباتها وإلى هدوئها الذي يزع؟الأمس لا تشبه أزفون اليوم في شيء.