يكاد الفن عندنا يتلون بالقديم وإن لم يكن قديما فإنه يتزين بزيه ويرتدي برده، في الوقت الذي يغيب فيه الإبداع والتجديد، خصوصا في المجال الغنائي، أصوات شبانية تبحث لها عن مكان في عالم الفن، وأصوات أخرى دخلت المجال الفني بعدة طرق مادام الفن أصبح طريقا سيارا للشهرة والثراء ومفتوحا لغير أهل الفن. الفن في ثقافتنا كان يعّد جانبا من جوانب المقاومة والبقاء في وجه الاحتلال والاستئصال الذي عمل الاستعمار من خلاله على اجتثاث . وتفريغها من محتواها الحضاري ومحاولة إنزالها الى الحضيض من خلال تشجيع الفن ''الساقط''، ولأن المجتمع الجزائري حينها كان يتميز بالمحافظة والتشدّد وعدم التشبه بالفرنسيين، كان يرفض مثل هذا الفن ويجعله من المحرّمات ويبحث لنفسه من خلال أبنائه المتشبعين بقيمه على الفن الأصيل الذي يتناغم ومقوماتنا الدينية والحضارية وينسجم معها. وجوه فنية كثيرة غيبها الموت واستوطنت أصواتها النسيان بعدما كانت قبل الرحيل تصنع الفن وتبدعه وتملأ صفحات الجرائد وتسهر المدن الكبرى على أصواتها وإبداعاتها، لم تكن هذه الأصوات الفنية آتية من فراغ، بل كانت تمضي جهدها في البحث الذي يشبه التنقيب أو الحفر على منابع الآبار الأصيلة لحضارتنا ولإبداعات مجتمعنا عبر العصور والحقب التاريخية، وهذا المجهود كله جاء من أجل فرض الذات الوطنية ومخالفة الآخر في الخصوصية والبحث عن المميزات التي تمنعها من الانصار والتلاشي في الآخر. الفن الجزائري اتسم بالتنوّع، ولكن تنوّع في إطار إبراز ثراء الثقافة الوطنية الأصيلة وقدرة كل منطقة على الإبداع والإنتاج والخصوصية في ذات الوقت، حتى أننا نلمس هذا التنوع في الجنس الفني الواحد. فعندما نبحث أو نستمع للأغنية ''الشعبية'' الأندلسية نلاحظ هذا التنوّع من منطقة الى أخرى ومن مدينة الى مدينة، كما أن هذا الجنس الفني نجده يستوطن الشريط الساحلي من وطننا في كل من العاصمة، مستغانم، تلمسان، بجاية، قسنطينة وعنابة، وهناك أيضا نجد لهذا الجنس روافده في المدن المحيطة بالمدن الكبرى، مثل القليعة، شرشال، البليدة، المدية، دلس، ندرومة، لكن نجد هذا الفن يتجاوز ويتعايش مع الفن البدوي أو الجنس البدوي، الذي هو الآخر استوطن هذا الشريط الساحلي وكلما تغلغل في داخل كلما بدأ يتنوع إلا أنه في أصله واحد، يلتقي هو والأندلسي والشعبي والصحراوي على القصيدة الواحدة، ولكن الاختلاف يكمن في طريقة الأداء فقط. الفنانون الذين أبدعوا ولم يمض على إبداعاتهم من الوقت الكافي لنسيان هذه الإبداعات والأصوات أو لحفظها في أرشيف الأغاني هم كثر، بل هم من الرعيل الذي حافظ على مميزات وأصالة الفن الجزائري وفتح من خلاله جبهة على الصراع الثقافي، مثلما كان عليه الحال في جبهات أخرى كالصراع السياسي والصراع الديني إن صحّ عليه هذا التعبير لوجود امتيازات للديانتين المسيحية واليهودية على حساب ومصالح الديانة الإسلامية، الآن، هذا الصراع لا يمكن إنكاره وحملات التبشير تقتفي أثر التدمير التي تخلفه الحملات العسكرية من أجل مسح هذه الآثار في أشخاص المبشرين والآباء البيض. هذا ما أحدث أو تسبب في حدوث الصراع الفني لإثبات الذات وللبحث عن الخصائص والمميزات التي يتميز بها مجتمعنا، حيث نجد الفن قاد المرحلة وبكل شجاعة ووعي ولم يتأثر أو ينبهر لحالة الدهش بالفنون الدخيلة، بل نجده يصارع هذه الفنون في عقر دارها من خلال عيسى الجرموني، بار حدّة في قاعة ''الألمبياد'' بباريس، بالصوت وبالزي المتمثل في اللباس، فكان الفن أصيلا بكل أبعاده الجزائرية، بل كان الفن غيورا على أصالته ومعتدا بها، وهذا ما جعله يقود ويتصدر المقاومة الثقافية ولا يترك المكان شاغرا. كما أن الفنانين الجزائريين الذين عايشوا هذه المراحل كانوا على درجة كبيرة من الوعي رغم انعدام الوسائل والمحفزات، بل حتى القدرة على القراءة والكتابة باللغة العربية، إلاّ أن الفنان كان يبحث ويجتهد ويتعلم ويبدع في ذات الوقت، فالشيخ محمد العنقاء كان دائم البحث والتنقيب في التراث الشعري، بل كان يذهب إلى المغرب للبحث والعودة وبحوزته القصائد الجديدة التي عثر عليها أو استقاها من شيوخ الفن هناك، ولم يكن عيبا وقتها أن تغني أغنية ''المكناسية'' أو ''يوم الجمعة خرجوا لريام'' وغيرها من القصائد التراثية ''المغاربية''، لأن الهدف يومها كان واحدا والمقاومة واحدة. والمطرب كان يقتفي أثر العلماء الذين كانوا يتنقلون من تلمسان أو بجاية أو الجزائر العاصمة الى جامعة القرويين بفاس أو الزيتونة بتونس، لأن الثقافة كانت ثقافة واحدة تأخذ وتستنير من مشكاة واحدة، ولهذا أطلق على الكثير من المطربين اسم ''الشيخ'' والشيخ لا يطلق إلا على إمام عالم كبير، فهو شيخ علم، واقتبس اسم الشيخ من المشيخة العلمية إلى المشيخة الطربية والشعرية، فالشيخ الصوفي الذي يلقن الأوراد لتلاميذه ومريديه هو ذاته الشيخ الذي يلقن أشعاره وألحانه إلى تلاميذه ومريديه، ولهذا اتسمت الأغاني بالجدية في الطرح والحكمة والموعظة والتجربة التي يتمرسها المطرب من خلال ما تمرّ به حياته من محن ومشاق، فالمدرسة هي الحياة والتجربة ومن هنا تنبع الحكمة. هنا نجد الفن رسالة أدّاها الفنان كتلك التي كان يؤديها المقاوم في المعركة أو في السياسة أو في المدرسة... ثم تأتي أجيال أخرى لتحافظ على هذا النهج وتضيف له وتبدع أمثال أحمد وهبي، خليفي أحمد، دحمان الحراشي، بوجمعة العنقيس، عمر العشاب، الطاهر الفرقاني، الهاشمي قروابي، محمد الغفور، البارا اعمر وغيرهم من الشيوخ الجدد الذين لم يقلدوا وإنما تمرّسوا هم أيضا من خلال البحث والدراسة وكانت لهم مميزاتهم سواء من الرجال أو النساء، فيكاد كل فنان أن يكون مدرسة، حتى الفنانين الذين خرجوا عن مجريات العادات والتقاليد وتبنوا الفن العاطفي غير المباح أو الذي لا تجتمع العائلة الجزائرية على سماعه، والذي تطور فيها بعد وأصبح يطلق عليه فن ''الراي'' وهو الفن الناشز الذي تحول فيما بعد إلى الفن العام الذي اجتاح الأسر الجزائرية والشباب وأصبح موضة للغناء ومطية سهلة للوصول الى الشهرة، لكن هناك فروق بين ''الراي'' القديم و''الراي'' الجديد أو ''الشباني''. لكن هناك ظاهرة فنية أخرى جمدت الفن، بل عملت على قتله والعبث بشيوخه ورواده الأوائل والاستخفاف بمنتوجهم ومجهودهم، وذلك من خلال إعادة بعث ما قدموه من أغان، بل ذبح ما قدموه من أغان، فيأتي الجاهل الأمي الذي لا يبحث ولا يدرس ويغني أغنية أحمد وهبي أو الحاج محمد العنقاء أو الهاشمي قروابي ويعلنها دون خجل أو وجل أنه سيقدمها في ألبومه الجديد. الجديد الذي يخرج من القديم لا يحافظ على هذا القديم ولا يكترث للمجهوات الكبيرة التي بذلها الفنانون القدامى والتي سهروا لتلحينها الليالي الطويلة وبحثوا عن كلماتها في التراث السنوات الطويلة، ليقدموها بذلك الشكل الجميل من صوت وأداء وموسيقى، أما اليوم فنشاهد وجوها وسلوكات غير محتشمة ولا تدرك ما تقدمه وتأتي لتحوّل التغريد الى نهيق ونعيق وتدعى أنه فن، وتحاول بدون مشقة ولا تعب أن تصل الى الذروة والشهرة، بل حتى العالمية أصبحت كلمة تكرر على لسان كل من غنى في''حانة'' أو ''كاباريه'' في فرنسا أو أمريكا بأنه مطرب حاز على العالمية. الاجترار الفني أصبح موضة، ولكن طريقة الهضم وطريقة التغذية التي يمكن أن تفيد الجسم الفني هي تغذية مستهلكة، خالية من كل ما يقوي الساحة الفنية، بل أكثر من هذا هو قتل للإبداع والركود الذي يقتل كل شيء يؤمن بالحراك والتجدد لأنه مجرد اجترار وأصوات قديمة ولكن على أفواه جديدة وناشزة.