أصبح الاكتظاظ ظاهرة لصيقة بمحاكم العاصمة، حيث أنها تعج بالمواطنين سواء في بهو المحكمة أو داخل قاعات المحاكمة التي تمتلئ في العديد من الأحيان عن آخرها، لتسفر عن الفوضى التي تخل بمبدإ احترام نظام الجلسات رغم إنذارات رجال الشرطة المتكررة تارة ومطرقة القاضي تارة أخرى.. ما يدعو للتساؤل هل كل من يدخل المحكمة لديه بالضرورة قضية تخصه أو وثائق يريد استخراجها؟ من المعروف أن المحاكم مقصد شرائح مختلفة تنشد استخراج الوثائق، على غرار شهادة الجنسية وصحيفة السوابق العدلية، وكذا البعض ممن تستدعيهم العدالة للتحقيق معهم أو للإدلاء بشهاداتهم أثناء المحاكمة، حيث يكون الحضور في هذه الحالات ضروريا.. لكن المعاينة الميدانية وشهادة بعض المحامين تنفي أن تكون الضرورة هي الداعي لارتياد المحاكم بالنسبة للبعض. ولدى تسليط الضوء على ظاهرة الاكتظاظ في المحاكم تطفو عدة معطيات على السطح. وفي هذا الإطار تقول إحدى المواطنات: ''إن بعض الأشخاص يدخلون إلى المحاكم بصفة لا تمت بصلة لهيبة المكان، إذ لا يخرج غرضهم عن إطار معاكسة الفتيات''.. وتشاطرها الرأي إحدى المحاميات: ''صحيح.. إن بعض الشبان ممن يعانون من البطالة يجدون في المحاكم موقعا استراتيجيا لاصطياد بعض المحاميات، عساهم ينجحون في إقناع إحداهن بالزواج، وبالتالي إبرام صفقة العمر التي تخفف عنهم عبء البطالة، حيث يختلقون بعض الأعذار للتحدث مع بعض المحاميات، فيبدأون بطرح أسئلة تتعلق بالأمور القانونية ليفصحوا أخيرا عن الهدف المنشود. تحدث هذه الأمور عادة في بهو المحاكم، إلا أن قاعات المحاكمة لا تسلم أيضا من الاكتظاظ الذي يؤثر بدوره على السير الحسن للجلسة، ونتيجة لذلك يصعب في العديد من الأحيان على الصحفيين الذين يتوجهون إلى المحاكم لتغطية القضايا المطروحة بها، كما يعجز بعض المواطنين عن تتبع التفاصيل وسماع أحكام القاضي، بسبب جملة السلوكات التي تخل بنظام الجلسات.. وفي هذا الصدد يبدو جليا من خلال الاحتكاك بالمحاكم أن الهدوء يغيب في كثير من الأحيان عن قاعاتها، وهو ما يبدو جليا للعيان من خلال حركات الذهاب والإياب لرجال الشرطة الذين يوجهون بين لحظة وأخرى الملاحظات لردع بعض الحاضرين عن الحديث أثناء الجلسة، أو يأمرونهم بإقفال هواتفهم النقالة، حيث يحذرون ذلك ويوبخون ذاك، وقد يصل الأمر إلى الطرد بأمر من القاضي، والذي يجد نفسه مجبرا أحيانا على أداء دور الحارس إلى جانب واجب المقاضاة، جراء سلوكات أشخاص لا يتعاملون مع المحكمة على أنها مكان محترم لديه نظامه الخاص، كما تفرضه مضامين المواد (144) و(146) و(147) من قانون العقوبات المتعلقة بالمخالفات المرتكبة ضد النظام العمومي. ومن أسباب الفوضى التي تسود قاعات المحاكم هو أن البعض لا يتقبلون الأحكام الصادرة في حق ذويهم، فيثيرون المناوشات داخل الجلسة من خلال السب والشتم، مما قد يكون سببا في محاكمتهم. وهناك كذلك مشكل شائع وهو عدم إقفالهم لهواتفهم النقالة، فهذه الأخيرة عندما ترن تشوش على هيئة المحكمة، مما يضطر القاضي إلى أمر رجال الشرطة بحجزها، على أساس أن القاضي يتمتع بالصلاحيات في تقديم الملاحظات لكل من يخل بنظام الجلسة، وله حق المتابعة القضائية في ذلك، وفي الواقع - حسب البعض من أهل الاختصاص - حالات عدة أدينت بتهمة إهانة القضاة أو رجال الشرطة أثناء تأديتهم لمهامهم، فصدرت في حقها أحكام. وبحسب مجموعة من المحامين، فإن مسألة اكتظاظ القضايا تؤثر كثيرا على هيئتهم نظرا للكم الهائل من الملفات المبرمجة يوميا والذي يقتضي الانتظار طويلا في المرافعات، مقابل التشويش الحاصل من قبل بعض الأفراد، مما يجعلها من المنغصات التي تلازم قاعات المحاكمة على الدوام، وتكسر الصمت الذي يفترض أن يسود فيها بسبب الجمهور الزائد عن الحاجة. والمفروض هو أن يكون الدخول إلى القاعات مقتصرا على الأشخاص الذين يحوزون على الاستدعاء، لكن الذي يحدث غالبا هو أن المتقاضي يوجه بدوره دعوة إلى كل أبناء الحي أو الدوار ليحضروا وقائع الجلسة!.. ويكون الحضور تبعا لما أفادنا به مصدر قضائي، مكثفا من طرف الأهل والأصدقاء والمعارف من باب التضامن، لكن يختلف الأمر غالبا عندما يتعلق ببعض الجيران، ممن لا يتعدى هدفهم مجرد الاطلاع على حيثيات الواقعة استجابة للفضول. ويجد الفضوليون ضالتهم بصفة خاصة في قسم الأحوال الشخصية بالتحديد، حيث يكثر الإقبال على تتبع قضايا الطلاق، بدافع التلصص على الحياة الخاصة والتلذذ بسماع حكايات الناس، ولاسيما تلك التي تخص الجيران... ومثل هذه الأمور تثير اهتمام النسوة بصفة خاصة، حيث يستهويهن كشف المستور المتعلق بالجارات، يقول بعض محدثينا المحامين. وعلى صعيد آخر يتحول الحضور في قاعات المحاكم إلى ضرورة بالنسبة لبعض المواطنين الذين يخشون أن يورطهم المتهم في القضية لما يكون من معارفهم أو جيرانهم. الفراغ، يشكل هو الآخر حافزا لبعض المتقاعدين لتتبع مختلف القضايا التي تعالجها العدالة، ما يجعلهم ملمين بكل ما يجري، والسبب هو تلافي الفراغ الذي يحاصرهم.. ولعل هذه الظاهرة تعكس حقيقة غياب الإمكانيات والآليات التي تسمح باستغلال الخبرات المهنية لهذه الفئة في مشاريع، للحيلولة دون وقوعها في دائرة الملل والفراغ. ومن ناحية أخرى تكشف المعطيات المستقاة من محكمة عبان رمضان بالعاصمة أن الفضول لا يكون في كل الأحوال منصبا على تتبع حكايات الناس، ففي بعض الأحيان تكون له أهداف إيجابية كالرغبة في اكتساب ثقافة قانونية والاطلاع على طرق سير العمل في الساحة القضائية، خاصة عندما يتعلق الأمر ببعض القضايا الكبرى التي تستقطب اهتمام الرأي العام، على غرار قضية الخليفة، التي جذبت عامة الناس وكذا عددا هائلا من رجال القانون ممن تعد القضايا الكبرى فرصة سانحة لهم لاكتساب المزيد من الخبرة والكفاءة في أداء واجبهم المهني. وفحوى القول هو أنه رغم الإجراءات التي تم اتخاذها لتخفيف الضغط على المحاكم من خلال تشديد الحراسة عند المدخل حتى يكون الدخول إلى قاعات المحاكم مقتصرا على أصحاب الاستدعاء، إلا أنه في غياب التطبيق وكثافة السكان بالعاصمة والقضايا المطروحة بمحاكمها يبقى الاكتظاظ تحصيل حاصل إلى حين إيجاد سبل عملية للحد من تأثيرات هذه المشكلة.