وأنت تتفقد تراثنا الثقافي الذي ما يزال لم ير النور منذ مئات السنين الا في بعض المجلات أو البحوث، تكتشف أن هذا التراث هو وثائق تاريخية كتبها الجزائريون بصدق حتى و إن جانبت الكتابة المنهجية واعتمدت منهجية الشعر الشعبي، إلا انها استطاعت ان تحافظ لنا على صورة المقاومة وصمود الشعب الجزائري، وهذه المقاطع التي نشرناها في جريدة ''المساء'' مأخوذة من المجلة الإفريقية الصادرة في .1894 في المقاطع السابقة صورت لنا القصيدة الشعبية الغزو الأجنبي البحري على البهجة مدينة مزغنة الجزائر، وكيف استطاع الجزائريون التصدي لهذا الغزو الصليبي والقيام بالهجوم المعاكس وانهزم الأعداء وفروا، إلا أن فرارهم وانهزامهم لم يجعل من الجزائريين يخلدون للنوم والراحة، بل كانت يقظتهم متواصلة وعيونهم مفتوحة واستعدادهم للمواجهة والمعركة متواصلا، لأن العدو لا يؤمن جانبه فتقول القصيدة : ''تبات الرياس واقفه تربط في الميزانه بقلوب على الحرب لاهفه ماهم شى شبعانه'' لماذا هذا الحذر والاستعداد من رؤساء البحر؟ وأيضا لماذا التشوق للحرب؟ لأن العدو يتربص بالجزائر ويتحرش بها، بل أوروبا الصليبية كلها تعمل من أجل تحطيم الجزائر، حيث تواصل القصيدة تصويرها للواقع حيث تقول : '' كيفاش الكفار يطمع في البهجى سلطانة المدن من فيها رجال يدفعوا عنها كل بلا من الفتن كل ولى يرمي بمدفع ما يخطى من قابلوا مطن بعدما كانوا فزعوا واتفق نصر لهاذا الوطن'' فالأبيات تروي كيف الكفار الغزاة أخذهم الطمع باحتلال البهجة عاصمة وملكة المدن لأنها لو سقطت هذه المدينة السيدة تسقط المدن الاخرى، لكن أبطال الجزائر يدافعون عن هذه المدينة التي قهرت الإفرنجة وخيبت طموحاتهم. وتستمر القصيدة في وصف يقظة حراس الجزائر أسود البحر والبر الذين قهروا الأعداء فتقول : '' ورجال البهجى مساعفه ما تغفل سهران انتبه في الخلق رايفه بالالطاف والاحسان أولهم سيد الثعالبي هو السيف وصور حرمها بحر العلم خليفة النبي صاحب الاسرار والبها بحديثه نفجر كرايبي نوار الحضرة وسّرها غاية مقصدي ومطلبي سلطان أهل السر كلها'' لم يغفل الشاعر أعيان الجزائر في قصيدته، وهم الأولياء الذين لم يبقون في صوامعهم ومعابدهم، بل هذه الصوامع تحولت الى أربطة وأبراج للمراقبة والحراسة والدفاع لأن علماء الجزائر هم رجال الجهاد والصمود والتصدي للأعداء ومنهم الولي الصالح والعالم الكبير سيدي عبد الرحمن الثعالبي. فالصوفية في الجزائر لم تكن سلبية ولم تكن في يوم من الأيام فرق رقص وطبل وإغماءات، بل كانت قوة جهادية تصدت للأعداء من رؤساء البحر إلى المقاومات الأخرى التي قاومت الاحتلال الفرنسي من الأمير والإخوان الرحمانيين والزعاطشة ولالة فاطمة نسومر وغيرهم ممن قاوموا الاحتلال الفرنسي. تمضي القصيدة في هذا السياق لتقول : '' في حماه البهجى مشرفه وبجاه مطمانا صاحب الاسرار والبها حاشا الله أن ينسانا'' ولم يكن الثعالبي وحده نموذج الصلاح والعلم والجهاد، بل هناك آخرون؛ منهم : '' سيدي بوجمعة مساعفه شيخه ما يبغى يكلّفه ابن عبد الله صيد نعرف جاب في يده زاند من ضرب بها يتلف ما يظهر للآن سيدي الكتّاني نحقق دايما مدفع مالحقه والرجال السبعه اتفقوا جاوا في غيظ شحان'' نلاحظ أن الشاعر يذكر الأولياء الصاحلين في الجزائر من سيدي عبد الرحمان الثعالبي إلى بوجمعة، وابن عبد الله والكتاني، لكن يتكلم في هذه القصيدة عن رجل آخر يسمى سيدي السعدي؛ هذا الرجل الذي يبقى حاملا سيفه على الأعداء حيث لا يغمده فيقول : '' سيدي السعدى ما يفارقوا سيف لأهل الجوال'' فهذا الرجل دائم الاستعداد للجهاد ولمحاربة الغزاة الكفار النصارى ''أهل الجوان'' من أمثال سيدي السعدي هم حصن الجزائر وسورها الذي يرد عنها الأعداء ''هاذوهما صور حرمها والي فيها رجال قايمه سيدى الفاسى مايهونها والجودى بحماه سالمه ولي دّه دّه صيد قدها واسا للكفار معظمه جات بين الروم قبلها جا للبحر وقال له اطما هاج البحر كسر سفونهم وابقات غير الواح عايمه عبد القادر حرمها الكفا هو الّى يرعاها وأهل الله فيها مجاوفا حاشا تلقا الهانه'' وهكذا يعتمد الشاعر في روايته على سرد كرامات الأولياء الذين بفضلهم تحطمت الأساطيل ولم يبق من السفن إلا الألواح المتبقية تلعب بها الأمواج. ينهي الشاعر قصيدته بالاحتفال والفرح بالانتصار فيقول في آخر القصيدة: ''جازت نزهة في بلادنا والأبراج تبات زاهيا باكيا ترومضارب الغنا والرجال على الحرب ماضيا الاغا واصحابه مشحان نيران على الحرب قويا والخزنه جى صيد كامنا واصحابه اسود ثانيا'' هكذا يختم الشاعر قصيدته بعد هذه الصور والمشاهد ليحيلنا على شعراء آخرين جاءوا من بعده ليسجلوا ملحمة أخرى؛ ملحمة المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي، فكان مصطفى بن ابراهيم ومحمد بلخير ومحند اومحند والطاهر بن تريعة والكثير من الشعراء الذين صورا المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي إلى غاية أن خرج هذا الاحتلال مذموما مدحورا.