''نزلاء الكارطون''حالات من مشاكل المجتمع يتكثف نشاط مصالح المساعدة الإجتماعية الإستعجالية المتنقلة على المستوى الوطني مع زخات المطر الأولى من شهر سبتمبر، وتتواصل مع اشتداد البرد لساعات متأخرة من الليل وطيلة فصل الشتاء، حيث تخرج الفرقة حاملة معها بعض المساعدات التي يمكن أن تسد الرمق وترد البرد في صورة متكررة من كل ليلة، لتقديم المساعدة للأشخاص دون مأوى الذين يفترشون الكارطون ويحتمون بالشوارع الرئيسية، أمام المخابز الدافئة وعلى مداخل العمارات، عددهم مقلق، حيث أشارت الإحصائيات المقدمة من طرف وزارة التضامن الوطني إلى أنه تم إسعاف أكثر من 5139 شخصا بدون مأوى على المستوى الوطني سنة ,2011 من بينهم 2784 رجلا و 2081 امرأة و274 طفلا، ''المساء'' رافقت الفرقة في خرجة ميدانية ليلية. الشوارع.. الشرفات ومداخل العمارات أماكن إيواء انطلقت فرقة ''السامو'' المتكونة من أخصائيين نفسانيين، اجتماعيين و مربين من مركز دار الرحمة لبئر خادم على الساعة الحادية عشر، تتقدمها سيارة إسعاف، وفي المؤخرة حافلة فارغة لجمع الأشخاص بدون مأوى، الذين يقبلون المرافقة لمراكز الضيافة، بحيث تترك حرية اتخاذ قرار المرافقة لهم، وعند الرفض، يمكن أن يستفيد الشخص من مشروب ساخن، غطاء وحفاظات للرضع، حسبما أكده لنا الدكتور عزازان بن عودة المشرف الوطني على الإسعاف الاجتماعي، الذي اعتاد بدوره القيام بمثل هذه الخرجات. اتجهنا نحو المسار''ا'' الذي يضم أكبر شوارع العاصمة التي تشهد تمركزا لفئة الأشخاص بدون مأوى، العينات الثلاث المذكورة، كانت موجودة في الشارع الجزائري بقلب العاصمة، تفترش الكارطون أو تحتمي تحت سقف من النيلون أو تسكن الكارطون الكبير نفسه، حيث يجتهد كل فرد في تعزيز المكان الذي يبيت فيه، في الوقت الذي توزع فيه آخرون على شرفات بعض العمارات في الطابق الأرضي بشارع ''خليفة بوخالفة'' أو بشارع أودان وكذا مداخل البنوك والبريد المركزي، وأزقة'' السكوار'' وغيرها من المرافق التي تتحول في ظلمة الليل الموحشة والمخيفة لأماكن إيواء. فور وصولنا إلى شارع ديدوش مراد، تدفق أعضاء الفرقة يحملون الأغطية، المشروبات الساخنة، واتجهوا لتقديم المساعدة لشخص اختار الاختباء تحت موزع آلي للنقود، اعتاد على النوم هناك، فهذا المكان يحميه من البرد القارس وأرحم عليه من ذويه الذين تخلوا عنه، حسب قوله، مشيرا إلى أن الظروف الصعبة هي التي فعلت به هذا، في هذه الأثناء، ارتفع صراخ امرأة أرادت أن تجذب الأنظار إليها، حاولت الأخصائيات تهدئة روعها، إلا أنها انطلقت في نوبة هستيرية من البكاء تنبئ عن حزن دفين يعذبها... اختصرت حياتها بالقول أن زوجها توفي، وطفلاها في ملجأ للأيتام بسوريا... ورغم عدة محاولات لإقناعها بمرافقة الفرقة، إلا أنها رفضت الأمر كليا، وتبين من طريقة الحديث بين الفريق المسعف والمرأة أن كليهما يعرف الآخر جيدا، حيث أشارت الأخصائية النفسانية كريمة إلى أن المرأة تعاني من مشاكل نفسية واجتماعية. وقد أبدى بعض سكان العمارات المجاورة انزعاجا من وجودها هناك، حيث أشار أحد الشباب حين خاطبنا بلهجة حادة ولمسة عنف، أنه يود الحديث لمسؤول عندنا على أساس أننا من فريق ''السامو'' ، حيث قال إنها تتعرض للاعتداءات ليلا. نزلاء الكارطون أبناء العاصمة والمناطق الداخلية أيضا أكد لنا الكثير من مستجوبينا ممن وجدناهم في تلك الليلة الباردة نياما أو قعودا، يلفون أجسادهم النحيفة المتسخة في بطانيات تلقوها سابقا من الفرق المتنقلة أو من المحسنين وهم يحتمون بقطعهم الكارتونية، أنهم ينحدرون من المناطق الداخلية للوطن، وأن الظروف الاجتماعية الصعبة هي التي حتمت عليهم العيش في قلب العتمة، يقول ''محمد. ب'' من وهران، والذي وجدناه نائما عند مدخل البوابة الكبيرة للبريد المركزي على الساعة الواحدة صباحا: ''لقد مضت سنة وثلاثة أشهر على وجودي بالشارع، تركت زوجتي وأربع بناتي جياعا وبدون معيل، ليس لدي عمل، أكبر بناتي ستمتحن في البكالوريا هذه السنة، فضلت الهروب من المنزل على البقاء هناك لتحاشي النظر إلى وجوههن، اخترت الكارطون وفي كل يوم أبحث عن عمل، الجرائد لا تفارقني- هنا، حمل جزءا من الكارطون وظهرت جريدتان واحدة باللغة العربية والأخرى بالفرنسية -كل يوم أبحث في صفحات الإعلانات علّني أجد عملا، إلا أن الظروف كانت أصعب، لا أريد الذهاب إلى مركز الضيافة لأنني سأكون مضطرا للخروج صباحا وليس لدي ثمن تذكرة الحافلة، وفي هذه الأثناء تدخّل السيد عزازان بن عودة، المدير الذي يرافق الفِرق في خرجاتها قائلا: ''هل تقبل العمل معنا مقابل 6000دج، فرد الرجل قائلا: ''مستحيل، وماذا سأفعل بهذا المبلغ؟ إنه لا يسد الرمق، واسترسل الرجل قائلا: ''أريد عملا... أي عمل لن أشترط، فأنا أملك حرفة ويمكنني صناعة الزلابية والخفاف، وهنا أمسك السيد عزازان بيده وقال: '' إذا يمكنك العمل، لأننا سنتجه غدا صباحا لمدير الوكالة الوطنية للتشغيل بغرض إعطائك قرضا ب 000,300دج، وقف الرجل فورا وقال: ''اِتّكلنا على الله، مستعد للذهاب معكم''. أما محمد25 سنة، القادم من باتنة، والذي يعرفه أعضاء الفرقة المتنقلة جيدا كما يعرفهم هو أيضا يقول: ''علاوة على البرد وصعوبة النوم بمفهومه الصحيح في الشارع، هناك أشخاص لا يرحمون''. سألته الأخصائية النفسانية عن سر اختياره الشارع، فرد قائلا: ''أنا لم أختره، لكن عائلتي ترفضني، وظروف العمل في العاصمة صعبة جدا، فأنا أعمل ''حمالا '' وما أحصل عليه في اليوم لا يغطي نفقاتي، كما أن التحاقي بالمركز للمبيت سيعرقل عملية تنقلي''. ومن أصعب الحالات التي يُرثى لها؛ عائلات تفترش العراء، وأمهات عازبات يحضنن أطفالهن الرضع متشردات في أزقة الشوارع الرئيسية بحثا عن الأمان، الحديث إليهن صعب جدا، حيث نصحنا المختصين بعدم الاقتراب لتحاشي سماع السب والشتم. ومن بين الحالات التي استوقفتنا أيضا، امرأة خمسينية قادمة من ميلية، اختارت الجلوس والنوم في كارطون كبير، حديثها كان مضطربا، إلا أنها استطاعت أن تقول بأنها هربت لتجد الشارع حاضنا لها. جنود السامو... رحلة الرحمة في قلب العتمة أكد الدكتور عزازان بن عودة أن فرق مصالح المساعدة الإجتماعية المتنقلة لا تكل ولا تمل وتعمل على المدى البعيد أيضا، يقول: ''خلال خرجاتنا الليلية التي تقوم بها الفرق الموزعة على المسالك الأربعة المعدة وفق الواقع الجغرافي للعاصمة، والتي تضم أخصائيين نفسانيين ومربين ورجال أمن، فلا يمكن أن نحضر هؤلاء الأشخاص مباشرة للمراكز، لأن الأمر يتطلب الثقة ولا يمكن الحصول عليها من الوهلة الأولى، فهناك أشخاص احتجنا لأزيد من شهرين لكسب ثقتهم ومنه مرافقتنا، وغالبا ما نقدم لهم ''التيزانة ''، الحليب للرضع، الحفاظات والأدوية. أما فيما يخص الأشخاص الذين يقبلون مرافقتنا إلى مركز الضيافة المؤقتة ببئر خادم، يتم استقبالهم من طرف فرقة المساعدة المتخصصة في الاستقبال والتوجيه ويتم التكفل بهم من حيث النظافة والأكل والنوم، كما يتم ''إجراء تحقيق اجتماعي خلال 48 ساعة ليتم توزيع الحالات حسب خصوصيتها، فالبعض منهم قد يوجه إلى عائلته في إطار الإدماج العائلي أو يتم توجيههم إلى مراكز استشفائية للعلاج، أو يستفيدون من تدابير الإدماج المهني حسب كل حالة، حيث قمنا بإدماج 30 شخصا، في حين يفضل بعض الأشخاص العودة من جديد إلى الشارع''. وحول تقيم العملية، قال محدثنا: ''صعب جدا تقييم العمل الاجتماعي الذي نمارسه، فإنقاذ 4 أشخاص في الليلة الواحدة أمر رائع بالنسبة لنا، فسعادة الفريق لا تكتمل إلا بعد مدّ يد المساعدة لهؤلاء، وأود الإشارة إلى أن تعاون المحيط الاجتماعي معا أمر هام، لأنه إذا نجحنا في إقناع فتاة بالعودة لبيت أهلها، ثم تنال الضرب المبرح فور عودتها، ستعود للشارع بطريقة آلية، فهنا أشير إلى ضرورة التكامل بين كل أفراد المجتمع المدني لنجاح العملية. أشار الكثير من أعضاء فرقة المساعدة الاجتماعية إلى أن هذا العمل الإنساني أصبح شطرا من حياتهم، فكل واحد يدرك أن من واجبه إقناع الفرد بالالتحاق بالمركز لايواءه وإطعامه، ثم دمجه اجتماعيا إذا كانت الظروف العامة مواتية. آيت عيدر سهيلة، مربية اِلتحقت ب ''السامو'' منذ 5 سنوات تقول: ''لا أنكر أن هذه المهنة متعبة جدا، لكننا نكتشف فيها الكثير من الأشياء التي يجهلها الناس، إننا نقف على معاناة الآخرين ونسعى للتخفيف عنهم من خلالها، هناك من يمطرنا بوابل من السب والشتم، إلا أننا نفضل وقتها الانسحاب، لأنه ليس في مصلحتنا الدخول في مواجهة، كون الطرف الآخر سيفقد الثقة، ولا يمكننا بعدها تقديم المساعدة له، هناك طرق خاصة في التعامل مع الأشخاص بدون مأوى، إذ يجب احترام حدود المسافة بيننا وبينهم، ومن جهة أخرى، يجب ألا يكون هناك شعور بالفروقات الاجتماعية بيننا وبينه، إذ يستوجب علينا التعامل معه بكل تواضع، لأنه سيرتاح ويتفاعل معنا آليا، وهذا هو الجزء الأصعب في المهمة، خاصة أن عملية الإقناع لركوب الحافلة تأخد وقتا طويلا. ويؤكد السيد علي، أخصائي اجتماعي صاحب 16 سنة خبرة في الميدان، أن الوساطة الاجتماعية التي باشرتها الجزائر والمرافقة عنصر أساسي وفعال للظاهرة، يقول: ''الفوائد المجنية تبقى محدودة إذا لم تكن مدعمة بمكانزمات، إذ يجب تطوير الحقل الاجتماعي، خاصة أنه حصلنا على تخصص الوساطة الاجتماعية وهي مرافقة الشخص، وأن تكون الوسيط بينه وبين مؤسسات الدولة، والغريب في الأمر أن بعض الشباب مثلا، لا يعرف محيطه من البلدية ومنه حقوقه ووجباته أيضا، وهذا ما يغذي ردود الأفعال السلبية لديه''.
الصبر والإنسانية سلاح المسعفين كل فرد من فريق الفرقة الاستعجالية المتنقلة يدرك أن المهمة ليست سهلة بل أكثر من هذا قد تكون خطيرة، إلا أن سنوات الخبرة التي قضاها هؤلاء الجنود وسط نزلاء الكارطون والشوارع، مكنتهم من سلك سبل مختلفة في المعاملة والإقناع، بحيث أصبح كل واحد يعرف متى يتكلم ، يقترب ويقدم الشيء، فقراءة تعابير الوجه جوهرية وعليها تبنى المعاملة، ورغم الرقة والإنسانية التي يتميز بها هؤلاء، إلا أن هذا لم يشفع لهم من الممارسات اللاأخلاقية التي يتبناها بعض الأشخاص المخمورين ومتعاطي المخدرات، حيث تعرضنا في تلك الليلة إلى مضايقات شديدة من شاب عشريني اِنهال بالسب والكلمات النابية على الجميع، ولم يكتف بهذا، حيث تعرى في صورة مخجلة أمام مرأى والدته التي رفضت ليلتها الإلتحاق بمركز الضيافة خوفا منه، علما أنه لم يكن في وعيه، وقارورة'' الديليون'' لم تفارق يديه، إلا أن الأمر الذي يثير الانتباه أنه واصل المضايقة وقطع شوطا متتبعا القافلة وراح يسب ويشتم أمام السكوار، إلا أن وقوف شاب من سكان العمارات المجاورة أمامه ومطالبته بالسكوت أتى بنتيجة، فرغم الحالة التي كان عليها، إلا أنه انصاع للأمر، وتحليل الأمر لا يحتاج للكثير من الذكاء... إنه وجه من أوجه الجوار. تقول نعيمة، أخصائية نفسانية: ''عملنا يشبه إلى حد كبير عمل رجال الحماية المدنية، لديّ 3 سنوات في هذا العمل، لأنه عمل إنساني نعمل من خلاله على مساعدة الآخر، فرغم المخاطر التي نواجهها، هناك متعة أيضا... فنحن نضع نصب أعيننا وجود أشخاص مصابين بأمراض نفسية أو عصبية، وهنا نعمل على تجنبهم، ومع مرور الوقت نكسب ثقتهم. وأضافت محدثتنا قائلة: ''هناك أوقات نشعر فيها بالمرارة خاصة خلال الخرجات التي نصادف فيها عجوزا في الثمانين من العمر تبيت في الشارع، فأنا أتمنى أن لا أجدها لاحقا فيه، وهناك حالات تظل عالقة بذهني، وأكثر ما يسعدني هو أن آخد امرأة إلى مركز إيواء، ثم تستفيد من الإدماج العائلي، فهذا الأمر يسعدني كثيرا، وقد وُفّقنا في إدماج الكثير من الأشخاص خلال السنة الفارطة.
لقمة ساخنة وفراش نظيف في حدود الساعة الثانية وعشرين دقيقة، شدت القافلة الرحال للعودة بعد أن اجتهد أعضاء الفرقة في إقناع 18رجلا و3 نساء بالركوب في الحافلة، للذهاب إلى المركز المتخصص لإعادة التربية ''بنات'' رقم 2 بئر خادم، حيث باشرت الفرقة مهمة الاستقبال والحديث، ثم خدمة الضيوف مباشرة، حيث اِلتف الأشخاص بدون مأوى حول مائدة الطعام، وهم سعداء بلمس صحون العدس باللحم الساخنة التي قدمت لهم في تلك الليلة الباردة، وكانت فرحتهم أكبر عندما عرفوا أن فريد من أعدّ الطعام، ولأن اسمه تكرر خلال رحلة البحث والإقناع من طرف فرقة الإسعاف التي كانت تردد أن فريد في الانتظار، اقتربنا منه في المطبخ وهو يقدم الطعام، فعرفنا أنه أحد الأشخاص بدون مأوى، وأنه عرف الشارع في وقت مضى، بل أكثر من هذا، أصيب بانهيار عصبي، وقد تم علاجه بالبليدة وهو الآن بصحة جيدة ويعمل طباخا في المركز الذي أمّن له غرفة ويتقاضى مبلغ 6000 دج شهريا، يقول فريد. م: ''أنحذر من ولاية تيزي وزو، أمضيت 4 سنوات كاملة في الشارع، تعبت نفسيا وتلقيت العلاج في مستشفى البليدة، عانيت من الخيانة والآن أنا أعمل مند 3 سنوات بمركز البنات لبئر خادم، وأجد أن حياتي أصبح لها معنى، أحيانا أذهب لزيارة ابنتي وأعود لمساعدة أشخاص بدون مأوى يقصدون المركز، إنني أعرفهم جيدا، وهم يعرفونني أيضا، فقد تقاسمنا الكثير من الآلام في الشارع. والجدير بالذكر أن هناك أشخاص يعرفون أعضاء الفرقة جيدا ويفضلون الذهاب معهم طوعا، حيث شاهدنا أشخاصا يركبون الحافلة فور وقوفها أمامهم، في حين فضلت الكثير من العائلات والأمهات العازبات وبعض الفتيات البقاء في الشارع، على مرافقة الفرقة للمركز.