مولد الرسول صلى الله عليه وسلم هو في مغزاه ومعناه عودة إلى ميلاد البشرية جمعاء على نقاوتها الأولى الفطرة التي فطرها عليها خالقها، بعد ابتعاد الناس عن فطرتهم النقية وتكديرهم لها وانحرافهم على الخط المستقيم الذي سار عليه الرسل والأنبياء ودخولهم في متاهات الشرك والجهل، مما أدى إلى اختلال الموازين والضلال، أرسل الله رسوله بدين الحق ليبين الطريق المستقيم ويرشد الضالين لهداه، ولهذا يحتفل الشعب الجزائري بمولد الهدى محمد صلى الله عليه وسلم منذ مئات السنين، في هذه المناسبة الكريمة استضاف المركز الثقافي الإسلامي الدكتور علي بلغانم لمحاضرة ألقاها أول أمس، دارت حول كتاب الشيخ محمد الصالح الصديق “جوامع الكلم النبوية” بحضور نخبة من المثقفين... الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بالأمر السهل والهين الذي يمكن لأي كان الخوض فيه، وكيف يتسنى لأي كان الخوض في رجل اختاره الله واصطفاه، حيث يقول عز من قائل “ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين”، وسئل عليه الصلاة والسلام عن صيام يوم الإثنين، فقال : “ ذاك يوم ولدت فيه، وفيه بعثت، وفيه أنزل علي”، ولهذا كان مولد المصطفى عظيما لأنه مولد للبشرية جمعاء، حيث أخرجها من ظلمات الجهل والشرك إلى رحاب الإيمان ونور العلم، حيث قال سبحانه وتعالى “ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا”، فحياته صلى الله عليه وسلم كلها فرح وبشرى، وسيرته كلها رحمة ومحبة وهداية، وكلامه كله صدق ونور، ولهذا قال الدكتور علي بلغانم، أن لعلماء الجزائر الباع الكبير في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء العلماء الذين تعطروا بهذه السيرة النبوية الشريفة العلامة محمد الصالح الصديق. وقبل أن يقرأ المحاضر كتاب “جوامع الكلم النبوية”، تطرق إلى حياة المؤلف محمد الصالح الصديق ليؤكد للحضور تميز هذا المؤلف بصفات قلما نجدها متوفرة في شخص ما، منها حفظه لكتاب الله وعمره لم يتجاوز الثامنة ونصف، وأنه حفظ كتاب الله على والده ومبادئ العربية، وخمسة وثلاثين متنا، ثم أخذ العلم عن العلامة عبد الرحمن الأيلولي وعلى الشيخ الشرفاوي، وتخرج من جامع الزيتونة بتفوق ولديه أكثر من مائة مؤلف في القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة. وأضاف المحاضر علي بلغانم أن الشيخ محمد الصالح الصديق من مرابطي منطقة القبائل، ومن عائلة علمية متحفظة، ويوم حفظ القرآن الكريم لم تعرف العائلة فرحا مثل فرحها بحفظه للقرآن، وكان والده البشير من فرحته أن سمح لوالدة محمد الصالح بأن تزغرد، وخير ولده بين أن يشتري له لعبة سيارة أو زيارة للجزائر العاصمة، فاختار زيارة الجزائر، وفي هذه الزيارة التقى والده في الطريق بالشيخ عبد الحميد بن باديس فأخبره عن ابنه محمد الصالح فوضع الشيخ بن باديس يده على رأس محمد الصالح وقرأ آية قرآنية ما تزال في ذاكرة الشيخ محمد الصالح الصديق إلى يومنا هذا. ويضيف علي بلغانم في تقديمه لمؤلف “جوامع الكلم النبوية”، أنه كان نجيبا ومجتهدا ومن مميزاته احترامه للوقت ولا يتكلم عن عيوب أحد، وأنه يتسم بالتواضع والتسامح، ومن مؤلفاته “مقاصد القرآن”، “البيان في علوم القرآن”، “إعجاز القرآن الكريم”، “توجيهات نبوية”، “من مناهل النبوة”، “مع الرسول في بلاغته”، “مواقف الرسول الخالدة” و«جوامع الكلم النبوية”. واستدل المحاضر إثر قراءته للكتاب بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : “بعثت بجوامع الكلم” والمراد منه القرآن الكريم، والذي سمي بجوامع الكلم لإيجازه واحتوائه على المعاني الكثيرة وعلى ما جمعته الكتب السماوية، وهو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الذي لا يحتمل صدقه الكذب لقوله عز وجل “وما ينطق عن الهوى”. ويضيف المحاضر أن كلام الرسول يأتي في المنزلة الثانية بعد القرآن الكريم، هذا عن “جوامع الكلم النبوية” قصير العبارات، ولكن معانيه تصلح لكل شخص ولكل زمان، لأنها تبين علاقة الإنسان بخالقه وبمجتمعه، فيا ليت المسلم يتعلم هذه الأحاديث، ومن الأحاديث التي قرأها المحاضر قول عائشة رضي الله عنها عن الرسول : “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد”، وشرح المحاضر الحديث شرحا مفصلا ما جاء في كتاب “جوامع الكلم النبوية”، أي من حاول أن يحدث في الدين ما ليس فيه فهو باطل لأن الله قال : “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”. ثم قرأ المحاضر حديثا آخر للرسول يقول فيه :« آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان”، وقرأ أيضا حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : “ ما عال من اقتصد” أي ما افتقر من أنفق باعتدال ولم يتجاوز الحد بالإسراف، أحاديث كثيرة مدعمة بالقرآن وحكم وأقوال مشهورة. شرح المحاضر هذه الأحاديث وبين مستواها البلاغي ونوه بهذا الكتاب الذي تناول فيه العلامة محمد الصالح الصديق “جوامع الكلم النبوية” كما ذكر المحاضر بالاحتفال بمولد المصطفى القدوة الهادي، وأن حديثه صلى الله عليه وسلم تبيين وتوضيح لديننا، بل هو أمر ينبغي أن نأتمر به وننتهي على ما نهى عنه “وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا”. هكذا تحتفل الجزائر بمولد المصطفى من خلال التعطر بسيرته العطرة التي فيها القدوة والموعظة الحسنة والنور والطريق إلى الجنة.