قضى الحرفي جمعة بوجمعة 33 عاما في صياغة الذهب وتشكيله، وأبدع خلالها عشرات القطع الفنية المتميزة، ومازال يعمل في ذلك إلى اليوم بورشته الصغيرة بالقصبة العتيقة، ورغم تطور وسائل صياغة الذهب وتشكيله لايزال الحرفي محافظا على الطريقة التقليدية في مهنته. “المساء” زارت ورشته الصغيرة، فكان هذا اللقاء. لو تعرّفنا قليلا بحرفتك ... هي حرفة تحتاج لدقة عالية في العمل، وعلى الحرفي أن يُقبل عليها بحب وذوق ومهارة، لتكون النتيجة عملا متقنا يمزج بين الفن والإبداع. صحيح أنها حرفة متعبة للغاية ولكنها مميزة؛ لأن الوصول إلى قطعة فنية جميلة يُقبل عليها الزبون وترى رضاه بهافي وجهه شيء لا يقدَّر بثمن؛ فصنعة يديّ وذوقي أعجبت الناس، وهذا هو المبتغى في الأول والآخر.
وما هي مراحل صياغة قطعة ذهبية؟ أوّلا، أنا كحرفي، أعتمد على مخيّلتي الفنية في تحديد شكل القطعة، وهذا مستمد من تجربتي في صناعة الحلي التقليدية الفضية، بعدها تبدأ سلسلة طويلة من مراحل التصنيع، تتمثل في صهر الذهب يدويا، ثم الطرق والصب في قوالب معيّنة، ثم النقش، وهذا ما يجعل القطعة في نهاية المطاف تحفة فنية.
ومنذ متى وأنت تعمل في صياغة الذهب؟ منذ 1980.. يعني 33 عاما بالضبط قضيتها في هذه المهنة ومازلت أعمل بها حتى الآن، وذلك بالرغم من التراجع الكبير المسجل على حرفتي مقارنة بالذهب المصنّع بالآلة، وازدياد الأعباء في هذه التجارة؛ بالنظر إلى ارتفاع أسعار الأونصة الواحدة من الذهب، إلا أنني مازلت متمسكا بها، وآسف لأنها لا تسجل إقبالا من طرف الشباب للتكوين في مجاله.
لماذا؟ ألم تورّث أحد أبنائك هذه الحرفة؟ للأسف لم يتعلم أبنائي هذه الحرفة بطلب مني؛ لأني أدرك تماما مصاعبها وأن مآلها الزوال أمام تطور وسائل صياغة الذهب وتشكيله، كما أن متاعب صياغة الذهب يدويا كبيرة، ولكني أشير هنا إلى أنه مهما كانت الآلة جيدة وعلى مستوى عال من الإتقان في صنع الذهب وتشكيله لا يمكنها مجاراة إتقان اليدين في ذلك، فاستعمال الآلة بالنسبة لي يبقى مقتصرا على المساعدة في إتمام العمل فقط، أما يد الصانع ولمسته الفنية فهي التي تعطي القطعة جماليتها ورونقها الخاص؛ لأن الذهب موجود من أجل الزينة، وزيادة عنصر الجمال الخارجي يعود للحرفي ولمسته، ولأني أحب أن أتقن عملي فمازلت متمسكا بالطريقة التقليدية في هذه الحرفة.
لو رجعنا بك إلى الوراء قليلا، هل تصف لنا كيفية تعلّمك هذه الحرفة؟ تعلمت في سيدي امحمد الشريف بورشة آل نمشي، المعروف عنهم صناعتهم للحلي التقليدية الفضية، وانتقلت من صناعة الفضة إلى تصنيع الذهب لمحبتي لها. وبدأت في العمل معتمدا على اجتهادي الذاتي في تعلم هذه الحرفة، التي تتطلب جهدا فكريا كبيرا إلى جانب الصبر والتركيز. بعدها افتتحت ورشتي الخاصة في بداية الثمانينيات وبدأت العمل بوتيرة جيدة، وانطلقت في الإبداع بعد أن امتلكت الخبرة المناسبة، ثم كوّنت الكثير من المعارف من الزبائن والتجار خاصة في شارع باب عزون، حيث كنت رفقة 3 عمال يعملون عندي نشكل ما بين 250 إلى 300 خاتما، على سبيل المثال، في الأسبوع، وكنت أقصد التجار في محلاتهم لبيع القطع الذهبية، كما كان لديّ زبونات يتقدمن للورشة بقطع ذهبية ويردن موديلات أخرى، فأقوم بتصنيع مصوّغات ذهبية حسب طلباتهن، ولكن الأمور تراجعت بشكل كبير خاصة بداية من منتصف التسعينيات، وزادت حدة مع الارتفاعات القياسية لأسعار الذهب، ما جعل أعباء الحرفي أكثر من الفوائد. ولا يفوتني هنا الإشارة إلى أن أحد أسباب التراجع الأخرى أنه لا توجد ورشات تصنّع عدة أصناف وأشكال من الذهب، إنما يعتمد على تصنيع صنف واحد، وهذا ما جعل الإقبال على الذهب المستورد يلقى رواجا كبيرا.
هل من كلمة أخيرة؟ آمل من الجهات المتخصصة العمل على تأمين ظروف العمل الملائمة للصياغة، حتى ترجع الحرفة التقليدية لتنتعش مجددا، وهذا ما قد يفتح المجال أمام الشباب للإقبال على التكوين فيها، وقد يعيد بريقها المفقود.