رغم وجود سوق وطنية معروفة لبيع وشراء الأثاث القديم الكائنة بوادي كنيس، إلا أن بعض الباعة المتجولين بقوا محافظين على طلب الرزق عن طريق ”التبراح”، في معادلة معكوسة الأدوار، حيث يتوجه البائع نحو الزبون وليس العكس. إننا نتحدث هنا عن مهنة آيلة للزوال، نطلق عليها اسم ”جمع الأثاث المستعمل من البيوت”. ما تزال مهنة جامع الأثاث المتجول تظهر بين الفينة والأخرى في هذا الشارع أو ذاك، فكثيرا ما نلمحه يجر عربته وهو يجهر بصوته ”قش قديم للبيع”، مرتديا مئزرا أزرق اللون وأحيانا أبيضا.. مكررا عدة مرات ”اللي عندو قش قديم للبيع.. خزانة.. ثلاجة.. طباخة..”. وبين الأثاث الخشبي أو الأجهزة الكهرومنزلية، لا يتوانى التاجر في هذه السوق في قبول أية قطعة مهما كانت قديمة ومستعملة، حتى وإن كانت غير صالحة للاستعمال، فيقتنيها بأثمان بخسه، ثم يعيد صيانتها وبيعها لذوي الأجور المحدودة، أو يستغل أجزاء منها في حالة عدم صلاحيتها كلية ليعرضها ”كقطع غيار” في سوق وادي كنيس. كما أن ازدهار هذه التجارة مرهون بالإقبال الواسع من قبل بعض الزبائن الذين يحرصون على اقتناء هذا النوع من الأثاث المستعمل، خاصة أصحاب الأجور المحدودة، مما دفع بالتجار المتجولين إلى رحلة يومية بين مختلف الأحياء، لاسيما الراقية منها لاقتناء أجودها في حال عرضها للبيع، إذ يمكن للبائع الظفر بغرف نوم كاملة أو خزائن أو مكاتب أو ثلاجات.. وغيرها. أحد الباعة المتجولين لم يخف أنه يصادف في بعض الأحيان شراء بعض قطع الأثاث العتيقة التي لها قيمة تاريخية وتراثية عالية مصنوعة من خامة قماشية عالية الجودة، يشتريها عن أصحابها، خاصة من سكان أحياء العاصمة العتيقة، بأثمان معقولة لإعادة بيعها بأسعار مرتفعة لمحبي الأثاث القديم، خاصة الأجانب. وفي هذا الموضوع، تحدثنا إلى عبد الحكيم ووليد، وهما شابان من ولاية غرداية يعملان في هذا المجال منذ سنين، فأكدا أنهما ورثا هذه المهنة في نطاق العائلة، يقولان بأنهما يستيقظان باكرا، وبعد الفراغ من صلاة الفجر يتوجهان إلى عربتيهما بعد اتفاق مسبق على خطة العمل اليومي التي يتبعانها، مشيرين إلى أن اختيار الوجهة المقصودة يتم في الليلة السابقة، ثم يشرعان في البحث عن أثاث قديم بالتنقل بين المنازل، مع الاستعانة بطريقة ”التبراح”، وهي نداءات جوهرية على قارعة الطرق لإيصال الصوت إلى أكبر عدد ممكن من السامعين، فيستجيب من يهمه الأمر بالخروج إلى الشرفة والطلب من التاجر الصعود لمناقشة السعر. في السياق، يقول حكيم الذي يعتبر نفسه مفاوضا محترفا بأنه يشتري ما يعرض عليه من أثاث غير مستخدم بعد الاتفاق على السعر، موضحا أنه يقوم بإصلاح ما هو معطل منه ليعيد بيعه من جديد لأصحاب المحلات التي تختص في بيع الأثاث القديم. أما وليد فيوضح من جهته أن الأحياء الشعبية، على غرار بعض أحياء الرويسو، باب الوادي والمدنية، تنتشر بها بعض محلات الأثاث القديم التي تعد من جهتها قبلة لذوي الأجور المحدودة، مشيرا إلى أن هذه التجارة تنتعش خلال مواسم معينة، لاسيما مع حلول السنة الجديدة أو خلال الأعياد وفي فصل الصيف، حين تكثر موجات تغيير الديكور أو حتى الإقبال على الزواج والاستقلال بالمساكن الزوجية، وفي هذا الشأن يقول: ”تحتاج هذه المهنة إلى صبر وبحث يومي.. كما أنها تجارة سمحت لنا بربط علاقات اجتماعية في العديد من الأحياء التي نقصدها بالعاصمة”، ويعترف المتحدث أن تجارة الأثاث القديم تدر أرباحا لا بأس بها، لأن ممارسيها يشترون الأثاث القديم بأسعار جد منخفضة، ومنه يعيدون بيعها بأثمان جديدة”.