فتحت المجاهدة الجزائرية ذات الأصول الفرنسية أني ستينر، صفحة من ذاكرتها التي تحفظ لتاريخ الثورة التحريرية الكثير من الأحداث والمواقف. وعادت المجاهدة بالحضور إلى أحلك فترات حياتها وأجملها في نفس الوقت، عندما قررت الفتاة الشابة الالتحاق بصفوف الثورة والانخراط في أصعب الفرق، لتكلَّف بنقل الرسائل ووضع القنابل. قضيتها في ذلك كانت العدالة والحرية للشعب الجزائري؛ الأمر الذي حرمها من عائلتها وأولادها بأحكام قضائية جائرة، لم ترحم الأم فيها كما لم يرحمها المجتمع الفرنسي، الذي نعتها ب “الخائنة”.. فكان مصيرها السجن والتعذيب، لكنها في النهاية فازت بوطن لم ينكر جميلها ولم تبخله بعطائها حتى بعد الاستقلال. لم تسع منصة “منتدى المجاهد” جموع المتوافدين أمس من المجاهدين، الذين أبوا إلا أن يقدّموا شهاداتهم عن أني ستينر صاحبة 86 عاما. ولم يسمح وقت الندوة التي خُصصت لتكريمها، بسرد قصصهم وذكرياتهم عن أني.. وعلى كثرتهم فإن الجميع لم يوفّوا المجاهدة حقها، وهي التي ضحت بالوطن الأم وبالعائلة وبشبابها من أجل قضية عادلة، فكانت بحق الوجه الآخر لأوروبا الاستعمارية والمستبِدة، واستحقت أن تقلَّد أسمى المراتب والألقاب رغم رفضها لها ولمنحة المجاهد؛ كونها على قناعة بأن الثورة صنعها الشعب، وأنها لم تقم إلا بواجبها. وانطلاقا من مبدأ واجب الاعتراف بالجميل، ارتأت جمعية مشعل الشهيد توجيه تحية إجلال وتقدير لمناضلات اختلفت أعمارهن وتنوعت أصولهن؛ بين فرنسيات وإيطاليات وإسبانيات ممن خدمن الثورة التحريرية وضحّين من أجل الجزائر وعدالة قضيتها. وقد جاهدت هذه الفئة من النساء بالسلاح، وحملن الرسائل والقنابل، كما عالجن المرضى والجرحى، ورافع بعضهن عن الثوار أمام المحاكم.. استشهد بعضهن وماتت أخريات، وبقيت منهن قليلات يقاومن قساوة ظروف الحياة والتهميش أحيانا، والألم والمرض أحيانا أخرى. ومن أبرز المناضلات والمجاهدات، وقفت جمعية مشعل الشهيد عند “أني ستينر”، التي لم تكف عن وصف عدالة الثورة وبطولات مجاهديها وشهدائها وعن صداقاتها مع الأخوات المجاهدات، اللواتي غمرنها وغيرها من المناضلات من غير الجزائريات، بالعطف والعناية في أصعب المواقف.. مشيرة إلى أنهن جميعا كن جزائريات حتى النخاع وإن اختلفت أصولهن بين من وُلدت في الجزائر ومن قدِمت إليها من الخارج، ليجمعهن حب الحرية والعدل والمساواة ومواجهة غطرسة المستعمر. وتعددت الأسماء وتنوعت الوظائف التي شغلنها قبل الالتحاق بالثورة؛ فمنهن الطبيبة والمحامية والمهندسة والمعلمة، إلا أن قاسمهن المشترك كان دعم الشعب الجزائري ومشاركته همومه وآلامه، بل وحتى التضحية من أجله، تضيف ستينر، التي لم تُخف دموعها عند تذكرها رفاقها في السلاح وجميع من سقطوا خلال فترة الاستعمار؛ وكأن بالمجاهدة تعاتب نفسها وتحسدها على أنها لاتزال على قيد الحياة وهم ليسوا فيها.. وجاءت أني ستينر المعروفة بصانعة القنابل، إلى العاصمة في سن المراهقة (17 سنة)، وعندما اندلعت الثورة لم تكن أني تعرف أحدا من القادة، وبادرت بالاتصال بالثورة في ديسمبر 1954، واستغرق الرد عليها سنة كاملة. عملت المجاهدة في مخبر بئر خادم لصناعة المتفجرات لصالح الثورة مع الإخوة تمسي، وهم ثلاثة أطباء.. واستمرت أني في صناعة القنابل إلى أن أُلقي عليها القبض في أكتوبر من عام 1956؛ حيث اقتيدت إلى سجن بربروس، وتمت محاكمتها في نهاية ماي 1957. كما أُدينت ب 5 سنوات سجنا؛ لأنها تحدّت رئيس المحكمة العسكرية وأدلت بتصريحات سياسية من سجن بربروس والحراش. وفي سنة 1957 تم تحويلها إلى سجن البليدة لدواع متعلقة بالسلوك، وهناك وُضعت في زنزانة منفردة بدون أي شيء لمدة 3 أشهر، حيث دخلت في إضراب عن الطعام، لتوجَّه إلى العمل في صناعة الحلفاء، على عكس الفرنسيات، اللواتي يوجَّهن للعمل في ورشات الخياطة.. ومن البليدة نُقلت أني مرة أخرى إلى سجن الحراش قبل أن تحوَّل إلى فرنسا؛ حيث تنقلت بين عدة سجون، وتعرفت على عدة مجاهدات أخريات أمثال جاكلين قروج، جميلة بوحيرد، الجوهر أقرور وغيرهن...