يحكي الدكتور إبراهيم خوجة في هذا الحوار قصة الإسلام في مدينة بواتييه الفرنسية المشهورة بمعركة بلاط الشهداء التي توقف بها الفتح الإسلامي لأوروبا الغربية سنة 732 م، وكيف هزم المسلمون في القرن الثامن الميلادي جيوش شارل مارتال في معركتي بوردو وتولوز، جريدة المستقبل زارت الدكتور خوجة في مكتبه بمدينة وهران لتسمع منه كيف قام رفقة ثلة من الطلبة الجزائريين والمغاربة في إحياء آثار الإسلام والمسلمين في بواتييه. كيف جاءتك فكرة السفر في بواتييه والإقامة فيها؟ ذهبت إلى بواتييه للدراسة بعدما تحصلت على منحة دراسية في إطار اتفاقية للتعاون بين الجزائروفرنسا، فبعدما تخرجت في جامعة السانية بوهران في تخصص الفيزياء قمت بالتدريس في الجامعة نفسها لمدة عام، ثم توجهت إلى باريس في 1979 قصد الحصول على دبلوم الدراسات العليا المعمقة في "البيوميكانيك" المعادلة للماجستير حاليا، لكن القدر ساقني إلى بواتييه، إذ أننا كنا أربعة طلبة من وهران الذين تحصلوا على منحة دراسية في فرنسا، لكن زملائي الثلاثة اختاروا الدراسة في المدرسة العليا للميكانيك تخصص "الأيروميكانيك" أو ما يسمى بميكانيك السوائل، بمدينة بواتييه التي تبعد 350 كيلومتر جنوب غرب باريس، فوجدت أنه من الأفضل لي أن أدرس في بواتييه معهم حتى نبقى مجتمعين. بواتييه هي أقصى نقطة في أوروبا الغربية وصل إليها فاتحو الأندلس، فما هي قصة الإسلام في بواتييه؟ يعتقد الكثير من الناس حتى في أوروبا أن بواتييه هي أقصى حد وصل إليه الزحف الإسلامي نحو أوروبا، والحقيقة أن الفتح الإسلامي وصل حتى إلى مدينة "تور" التي لا تبعد عن باريس سوى بمئة كيلومتر فقط، وحقق المسلمون انتصارات كبيرة على الفرنسيين، فهزموهم في معركة تولوز ثم تقدموا نحو مدينة بوردو وفتحوها بعد معركة تاريخية خلفت الكثير من الشهداء والقتلى في صفوف الجيشين، وحاول قائد الجيش الفرنسي "شارل مارتال" وقف الزحف الإسلامي في فرنسا الذي امتد إلى بواتييه وتجاوزها إلى مدينة تور، فوقعت معركة "بواتييه" المعروفة لدى المسلمين "ببلاط الشهداء" في سنة 732 م والتي أوقفت الزحف الإسلامي ولكنها لم تقض على الوجود الإسلامي في فرنسا،. وحسب بعض المؤرخين فإن الجيش الإسلامي كان ينقصه حينها المدد بعد أن استشهد الكثير من الأبطال في معركتي تولوز وبوردو، فضلا عن التعب والإجهاد الذي لقيه جند المسلمين، وبُعد المسافة بين عاصمة الخلافة الأموية في دمشق عن خطوط المواجهة مع جيش "شارل مارتال"، وفيه من يتحدث عن تساقط الثلوج مما صعب مهمة جيش المسلمين غير المتعود على الجو البارد والقارس، فضلا عن استشهاد قائد جيش المسلمين في المعركة مما أضعف معنويات الجنود. من كان قائد جيش المسلمين خلال الفتح الإسلامي لجنوبفرنسا؟ في بداية الفتح الإسلامي للأندلس في 711 م قاد طارق بن زياد وموسى بن النصير جيش المسلمين، أما عندما امتدت الفتوحات الإسلامية إلى جنوبفرنسا فتولى قيادة الجيش الأمير السمح بن مالك الخلاعي، ثم جاء من بعده عبد الرحمان الغافقي الذي عرف بالشجاعة والإقدام الذي قاد الفتوحات الإسلامية في جنوبفرنسا من 721 م إلى غاية 725 م ليخلفه على رأس الجيش عنيبة بن سميم الكلابي، وفي عام 730 م أعيد تعيين عبد الرحمان الغافقي على رأس الجيش نظرا لحنكته القيادية وواصل فتوحاته في جنوبفرنسا إلى غاية استشهاده في معركة بواتييه في سنة 732 م التي ترك فيها المسلمون آثارهم التي مازالت موجودة إلى اليوم، وقد كتب المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه (الحضارة الإسلامية) "لو أن العرب دخلوا فرنسا لصارت باريس مثل قرطبة في إسبانيا مركزا للحضارة والعلم حيث كان رجل الشارع يقرأ الشعر في الوقت الذي كان ملوك أوروبا لا يعرفون كتابة أسمائهم". كيف فكرتم في إحياء آثار الإسلام والمسلمين في بواتييه؟ عندما ذهبنا للدراسة في بواتييه لم يكن هناك أي شيء يدل على وجود مسلمين في هذا المكان، فلم يكن هناك حتى قاعة للصلاة، مما اضطرني إلى تحويل غرفتي التي كانت تحمل رقم 124 في حي ديكارت الجامعي إلى قاعة للصلاة، وقد كنا أربع طلبة مسلمين من وهران وانضم إلينا طالب خامس من البليدة فأصبحنا خمسة، وفي أول مرة أذنت فيها للصلاة سمعني طالب نيجيري فسألني ماذا أفعل فقلت له أنادي للصلاة فقال لي أنا أيضا مسلم فهل يمكنني أن أصلي معكم، قلت له بالطبع، فأصبحنا ستة. ولكن كيف كنتم تصلون صلاة الجمعة وأنتم ستة وليس هناك مسجد يجمعكم؟ بالصدفة تعرفت على شاب مغربي عرفني على شخص آخر يدعى مصطفى نجان وهو حاليا أستاذ ميكانيك السوائل في جامعة الرباط بالمغرب، وكان مصطفى نجان شخصا مؤمنا ومتدينا، وكان يؤم 6 مصلين وكنا نحن 6 مصلين، فقررنا أن نجتمع وذهبنا إلى مدير الحي الجامعي وطلبنا منه بإلحاح أن يمنحنا قاعة لأداء الصلاة، لكن المدير رد علينا بأنه لو منحنا قاعة للعبادة فسيطلب المسيحيون واليهود نفس الشيء، فأوضحنا له بأن المسيحيين واليهود لهم يوم واحد في الأسبوع يؤدون فيه الصلاة أم المسلمون فهم يؤدون الصلاة خمس مرات في اليوم والانتقال للصلاة إلى أقرب مسجد في فرنسا سيؤثر على دراستنا، فوافق حينها على منحنا قاعة للصلاة، وأصبحنا 12 مصليا مسلما أقمنا أول صلاة جمعة في بواتييه وبعد شهر أصبحنا 40 مصليا، في نهاية 1979. لماذا هي أول جمعة في بواتييه ألا توجد جالية مسلمة في هذه المدينة؟ هناك جالية فرنسية من أصول جزائرية في منطقة "شانلوغوه" التي تبعد 30 كيلومترا عن بواتييه، ولكن لاحظنا بأنهم لا يفقهون الكثير عن الإسلام أو العربية، بل إنك لو سألت أحد أطفالهم من هو نبيك فسيرد عليك بسرعة "عيسى"، ورغم أن عيسى عليه السلام هو أحد الأنبياء والرسل لكن المسلمين لا يؤمنون بالتثليث، فالمسلمون في بواتييه كانوا شبه تائهين وأردنا نحن أن نوطن الإسلام في بواتييه، لأننا كنا طلبة ولم نكن مقيمين ومهما طال الزمن لا بد عائدون إلى بلدنا، لذلك قمنا بتأسيس جمعية مسلمي بواتييه، وبعد سنة من حصولنا على قاعة للصلاة تحصلنا على مركز إسلامي بفضل رئيس بلدية بواتييه المسمى سانترو . كيف تمكنتم من الحصول على مركز إسلامي بهذه السهولة؟ عندما أسسنا جمعية مسلمي بواتييه وضعنا على رأس الجمعية فرنسيين مسلمين يتمتعون بكافة حقوق المواطنة في فرنسا وبالتالي كان من حقهم المطالبة بمركز إسلامي ووافق رئيس بلدية بواتييه على ذلك وتم منحنا مقرا من طابقين، الطابق العلوي كان مخصصا للصلاة والطابق السفلي لتعليم اللغة العربية والقرآن الكريم وكان الهدف هو إحياء تعاليم الإسلام في أوساط الجالية المسلمة في المنطقة التي كانت محرومة من العربية والقرآن، وكانت هناك العديد من النشاطات الأسبوعية التي ينظمها المركز، حيث كنا نتصل بالشيخ فيصل مولاوي قاضي القضاة في لبنان الذي جاء إلى باريس بعد أن كان مهددا بالقتل خلال الحرب الأهلية في لبنان، وأصبح مسؤول العمل الإسلامي في فرنسا. لكن فرنسا معروفة بكثافة الجالية المسلمة وكثرة المساجد والمراكز الإسلامية؟ الوجود العربي في المدن الداخلية ضعيف مقارنة بالمدن الأخرى، لذلك يواجه أطفالهم مشكل الذوبان التام في المجتمع الفرنسي، لذلك كان همنا الشاغل هو توطين الإسلام في بواتييه عن طريق المسلمين الفرنسيين سواء الذين هم من أصول عربية أو الفرنسيين الذين اعتنقوا الإسلام حديثا، وقد قمنا بتقديم دروس للكبار والصغار، وعملنا على تعليمهم مبادئ الإسلام وتكوينهم حتى نجد من يأخذ المشعل من أيدينا بعد عودتنا إلى بلداننا، حيث كنا مع إخوتنا المغاربة نتداول إمامة المصلين وإلقاء خطبة الجمعة بالعربية وتقديم الدروس. كيف كان رد فعل الفرنسيين من هذا النشاط؟ من خلال المركز الإسلامي بدأنا نقيم ملتقيات الحوار الإسلامي المسيحي مع أحد الآباء البيض، ورغم معارضة بعض أعضاء الجمعية وموافقة البعض الآخر لهذا الحوار مع المسيحيين، إلا أن الجميع اقتنع بعد ذلك بجدواه، إذ فتح لنا الباب عبر هذا القسيس لتقديم حصة حول سماحة الإسلام في الإذاعة المحلية لبواتييه، وكانت وسيلة مناسبة لمخاطبة المسلمين وغير المسلمين في بواتييه عبر هذه القناة الإعلامية. هل اعتنق فرنسيون الإسلام خلال نشاطكم في بواتييه؟ العديد من الفرنسيين خاصة المثقفين منهم اعتنقوا الإسلام فمن خلال الأيام الدراسية التي كنا ننظمها من حين لآخر وكان يحضرها فرنسيون مسيحيون ومن خلال النقاش والحوار اعتنق العديد منهم الإسلام على غرار المفتش العام بمديرية التربية، وأطباء وطبيبات، إذ أن العديد من النساء الفرنسيات اعتنقن الإسلام وارتدين الحجاب وفيهن من تزوجن بشباب مسلم، أو كن متزوجات بمسلمين فاعتنقن بعد ذلك الإسلام، كما أن الجالية المسلمة التي كانت مهملة ولا يربطها بالإسلام سوى الاسم أصبحت الآن تنشر الإسلام في أوساط الفرنسيين. من هو أكثر من أثر فيك من مسلمي بواتييه؟ أحد المغتربين الجزائريين والذي كان جنديا في الجيش الفرنسي خلال ثورة التحرير الجزائرية (1954 1962) ورحل إلى فرنسا بعد استقلال الجزائر وأصبح تائها هناك لا يعرف شيئا عن العربية أو الإسلام، وجاءنا إلى المركز الإسلامي وأراد أن يتعلم القرآن فبدأنا نعمل على تعليمه اللغة العربية وقراءة القرآن حتى أصبح مداوما على تلاوته بل إنه سبقنا في هذا الشأن، وركزنا على هذا الشيخ الذي كانت له مكانته واحترامه في أوساط الفرنسيين خاصة وأنه يحمل الجنسية الفرنسية، حيث أصبح مسؤولا عن المركز الإسلامي ومن خلاله استطعنا أن نحافظ على استمرارية النشاط الإسلامي في بواتييه بعد رحيلنا فقد كان بيته بيت الإسلام يستضيف فيه العلماء الذين ندعوهم لإلقاء محاضرات بالمركز. ماذا عن آثار المسلمين الأوائل في بواتييه، هل أقاموا في هذه المدينة أم أنها كانت مجرد محطة توقفوا بها؟ شرعنا في البحث عن تاريخ المسلمين في بواتييه فلم نجد شيئا في البداية باستثناء ما كتب عن المعركة التي جرت بين جيش شارل مارتال وجيش عبد الرحمان الغافقي والتي دامت 9 ليال وعشرة أيام، والتي سقط فيها الكثير من الشهداء، ولما سألت على المكان الذي وقعت فيه بالضبط المعركة لم أجد شيئا، لكننا توصلنا إلى أن فئة من سكان بواتييه يدعون "ليسارازان" هم فرنسيون من أصول عربية ولكنهم ذابوا في المجتمع الفرنسي غير أنهم حافظوا على ملامح وجوههم العربية، وبعد إقامتي أربع سنوات في فرنسا وقبيل عودتي إلى الجزائر بعد حصولي على شهادة الدكتوراه في الطاقة جاء إلى بواتييه بروفيسور تونسي ليشغل نفس المكان الذي كنت أتولاه في مخبر بجامعة بواتييه وكان متخصصا في ميدان حديث آنذاك يتعلق باستعمال الإعلام الآلي في الميدان الصناعي، وهو الذي أصبح فيما بعد رئيس جمعية مسلمي بواتييه وواصل من بعدي عملية البحث عن آثار المسلمين في المنطقة حتى اكتشفنا مكان معركة بلاط الشهداء في مزرعة بعيدة عن مدينة بواتييه بنحو 30 كلم في الطريق إلى مدينة تور، وقام أحد الطلبة السعوديين بالاتصال بالمسؤولين في المملكة الذين أبدوا حماسة في تخليد هذا المكان وإعادة الاعتبار له، ولما وصل الخبر إلى أعضاء المجلس البلدي لبواتييه سبقونا إلى هذا العمل وقاموا بوضع لافتات تحدد معالم المعركة وأحيوا هذا التاريخ العالمي الذي التقت فيه الحضارتان الإسلامية والغربية، حتى أن المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون تأسف لوقف الزحف الإسلامي نحو باريس.