كثير منا كان يشكك في مواقف الروائي الراحل مولود فرعون من الثورة، لأننا لم نعثر في روايات "ابن الفقير''، أو ''الدروب الصاعدة'' أو ''الأرض والدم''، ما يوازي الرغبة الجامحة في قيام الثورة، وتفجير الوضع الاستعماري. لقد ظلت مواقفه الثورية مجهولة بالنسبة للكثير من قراء أعماله الروائية التي تتوقف عند تخوم الرغبة في دفع المستعمر نحو تفهم أوضاع الأهالي، وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بينهم وبين المُعمرين، دون الدعوة الصريحة للثورة. لكن بعد أن قرأنا روايته الجديدة المنشورة منذ سنتين، بعنوان ''مدينة الورود''، ندرك أن الرجل لم يكن ذلك الكاتب السلبي والمهادن في ما يتعلق بالاستعمار، من منطلق أن أعماله السابقة لا تعيد النظر في الهيمنة الاستعمارية. وتعد الرواية الجديدة بمثابة طفرة مغايرة ومميزة في إبداعه الأدبي. فالشكوك تزول نهائيا بعد قراءتها. وتجعل القارئ يدرك بما لا يترك أي مجال للشك، أن فرنسا الجمهورية، بمبادئها وقيمها التي أثرت في مولود فرعون التلميذ بمدرسة جول فيري العلمانية والاستعمارية، لم تعد تستجيب لتطلعاته. فكيف وقع هذا التحول في حياته؟ كتاب ''اليوميات'' المنشور بعد اغتياله في مارس هو الذي يقدم الأجوبة الكافية، وفيه تتجلى روحه الثورية. تبدأ ''اليوميات'' في نوفمبر أي سنة بعد اندلاع الثورة. وتتوقف في جويلية ثم تعود مجددا في جانفي وتقدم لنا إيضاحات بشأن فكر فرعون وعلاقته بحرب التحرير. وتُظهر النصوص التي كتبها ابتداء من سنة قليلا من الليونة تجاه النظام الكولونيالي، لكن الكاتب سرعان ما يدرك الأمر الواقع، فيسمو نحو الراديكالية الثورية، فيكتب ما يلي ''لقد بدأت الحرب بين شعبين مختلفين''، وهو دليل قاطع على أن فرنسا لم "تغز النفوس'' مثلما يعتقد الاندماجيين. وعقب وقوع العدوان الثلاثي على مصر، كتب فرعون في أوت أن العامل المصري هو من بنى القناة وليس الفرنسي دي ليسيبس. ويكتب عام أن فرنسا لم تترك للجزائريين أي خيار غير العنف الثوري، فوصف الاستعمار بكونه يشكل قرنا ارتبط بأنانية الغرب. ولا يتحدث فرعون في الصفحات الأولى من اليوميات عن الثورة. لكنها سرعان ما تفرض نفسها عليه ابتداء من ديسمبر فأصبحت يومياته يوميات حرب، ومواقفه مواقف مساندة للأهالي. صحيح أنه كان متحفظا من جبهة التحرير الوطني، بين إلى غاية لكن هذا لم يمنعه من التطور والسير نحو الإيمان باستقلال الجزائر. هذا ما تقوله الرواية الأخيرة، وتقوله اليوميات كذلك. ففي فيفري كتب لألبير كامي رسالة جاء فيها ''قُل للفرنسيين أن هذا البلد ليس بلدهم''. بيد أن فكرة الاستقلال التي كان يؤمن بها كانت قائمة على قبول جميع الأعراق، وتشكيل مجتمع يتكون من العرب والبربر والأقدام السوداء الذين ساندوا الثورة، ورفضوا استغلال الجزائريين. لقد تغير نحو نقطة قبول الاستقلال بدون معاداة فرنسا، وهذا ما يفسر قبوله العمل في المراكز التربوية الاجتماعية التي أنشأها الحاكم العام جاك سوستيل في أكتوبر اغتيل فرعون في مارس وحينها لم تر اليوميات النور، وكانت مجرد مخطوط. فوصفته وسائل الإعلام الفرنسية ب''الصديق الوفي لفرنسا''، وقدمته كنموذج للاندماجي المثالي، استنادا لأعماله الروائية السابقة. وكانت تجهل مواقفه المناصرة للاستقلال. وعلى خطى اليوميات، تقضي رواية ''مدينة الورود'' على كل الشكوك التي قد تحوم حول فرعون وعلاقته بالثورة، إذ فضح فيها كل التجاوزات الاستعمارية، واعتبر أن الاستقلال كان بمثابة الخلاص النهائي للجزائريين.