إن أصل كل خيرٍ وشر مبدؤه الفكر والتفكير؛ فمن الناس من تفكيره في ما يضره في الدنيا والآخرة، ومنهم من يصرف تفكيره في ما ينفعه في الدنيا والآخرة. والفكر يُثمر إرادة فعزيمة فعمل. ولما كان عمر الإنسان قصيراً والموت يأتي بغتة، فلا جرم كان على العبد أن ينتهز دقائق عمره وساعاته فيما ينفعه في آخرته، وأن يحافظ على أفكاره من أن تذهب سدى لا ينتفع منها، فضلاً عن أن تكون فيما من شأنه ضرره وهلاكه. وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله مجاري الفكر وأصوله التي لا يخرج تفكير الإنسان عنها فقال: فإن قيل: قد ذكرتم الفكر ومنفعته وعظم تأثيره في الخير والشرّ، فما مُتعلقه الذي ينبغي أن يوقع عليه ويجري فيه؟ فإنه لا يتم المقصود منه إلاّ بذكر متعلّقه الذي يقع الفكر فيه، وإلاّ ففكر بغير مُتفَكَّر فيه مُحال. قيل: مجرى الفكر ومتعلقه أربعة أمور: أحدها: غايةٌ محبوبةٌ مُرادة الحصول. الثاني: طريق مُوصِلة إلى تلك الغاية. الثالث: مضرة مطلوبة الإعدام مكروهة الحصول. الرابع: الطريق المُفضي إليها المُوقع عليها. فلا تتجاوز أفكار العقلاء هذه الأمور الأربعة. وأي فكر تخطّاها فهو من الأفكار الردِيّة والخيالات والأماني الباطلة؛ كما يتخيل الفقير المعدم نفسه من أغنى البشر، وهو يأخذ ويعطي وينعم ويحرم،وكما يتخيل العاجز نفسه من أقوى الملوك وهو يتصرّف في البلاد والرعيّة، ونظير ذلك من أفكار القلوب الباطولية التي من جنس أفكار السكران والمحشوش والضعيف العقل. فالأفكار الرديّة هي قوت الأنفس الخسيسة التي هي في غاية الدناءة؛ فإنها قد قنعت بالخيال ورضيت بالمُحال، ثم لا تزال هذه الأفكار تقوى بها وتتزايد حتى توجب لها آثارًا ردّية ووساوس وأمراضًا بطيئة الزوال.