عندما نتأمل قصة يوسف عليه السلام نعرف فعلا أن هذا البلاء لنبي من أنبياء اللّه، وعندما نقف عندها وقفات نعرف قدر الثبات الذي ثبته يوسف عليه السلام، لا بد أن نتصور ونعيش جو القصة ونتصور عوامل الإغراء والإثارة التي كانت موجودة لدى يوسف عليه السلام ويستطيع كل منا أن يتصورها عندما يقرأ القصة ويتصورها ويتخيلها بنفسه ويستطيع أن يدرك هذه العوامل. وقد أشار الحافظ ابن القيم إلى عدة أمور كلها كانت وسائل تغري وتهيج الفتنة لدى يوسف عليه السلام في مثل هذا الموضوع، وأولها العامل الطبيعي؛ أي أن الرجل يميل إلى المرأة أصلا، الرجل وكل الرجال إلا من شذّ لديه هذه الشهوة، فهذا العامل موجود أصلا.الأمر الثاني: كونه شابًّا ولا شك أن الشهوة عند الشاب تكون أكثر توقداً منه عند غيره خاصة مع ذلك فقدرته على ضبط نفسه أقل من غيره، ومن هنا تكون الصعوبة أكثر، فتعرفون أن يوسف عليه السلام رمي وهو صغير ثم أخذ رقيقاً وهو لا يزال غلاماً حتى قال عز رجل: (ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين * وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب). ولا يهمنا كم كان سن يوسف ولكن كان ولا شك قريب من العشرين يزيد عنها قليلا أو ينقص عنها قليلا، المهم أنه في مرحلة زهرة الشباب التي تشتد فيها هذه الشهوة.العامل الثالث: أنه كان عَزَباً لم يتزوج بعد؛ ولا شك أن هنا أيضاً أمر له أهميته، فالمتزوج قد يسر اللّه له طريق الحلال فلو أثاره ما أثاره فأمامه المصرف الشرعي، أما هذا الشاب الذي لم يتزوج بعد ولم يُحصّن نفسه فإنه أكثر عرضة للوقوع في المعصية، والداعي للوقوع في المعصية والإغراء أكثر من غيره.الجانب الرابع: كونه في بلد غريب، فالإنسان عندما يكون غريباً بعيداً عن أهله خاصة لمّا يتركهم في سن مبكرة فإن هذا يدعوه إلى أن يمارس ما يمارس، فوجود الغربة يدعوه إلى أن ينطلق وينفلت من هذه القيود التي تقيده وتحجمه، وكما نلاحظ الآن أن المرء عندما يغترب عن بلده يصبح أكثر عرضة للانفلات والضياع منه عندما يكون عند قومه وعشيرته وأهله.الأمر الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وذات جمال، أما كونها ذات منصب فهذا واضح، وأما كونها ذات جمال فإن مِثل العزيز العادة أن لا يتزوج إلا امرأة ذات جمال.الأمر السادس: كونها غير ممتنعة ولا آبية، فإن مما يصد المرء أحيانا عن المعصية أن تمتنع المرأة وتأبى.الأمر السابع: أنها طلب وأرادت وراودت وبذلت الجهد فكفته مؤنة الطلب وبذل الرغبة، فهي الراغبة الذليلة وهو العزيز المرغوب فيه، فالشاب قد تدعوه الشهوة إلى أن يواقع المعصية، لكن قد تبقى أمامه عقبه وهي الجرأة والتصريح بالرغبة والطلب، وتجاوز الأمر إلى قضية التهديد والوعيد له، فاجتمع عليه الترغيب والترهيب، فلو لم تكن لدى الشاب الرغبة ابتداءً فهذا الموقف كفيل بإيجادها.الأمر الثامن: أنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها بحيث يخشى إن لم يجبها إلى ما تطلب أن يناله أذاها فاجتمع له الرغبة والرهبة.الأمر التاسع: أنه لا يخشى أن تنم عليه لأنها الراضية الراغبة، فيزول لديه خوف الفضيحة ومعرفة الناس بما قارف من سوء.الأمر العاشر: قربه منها وكونه مملوكاً لها مما يؤرث طول الأنس، فهو يلقاها كل يوم ويراها، ويدخل عليها في أحوال لا يدخل عليها فيها غيره، وهذا يدعوه إلى أن يرى منها ما لا يرى منها غيره.الأمر الحادي عشر: استعانتها بأئمة المكر والاحتيال وهن النساء، قال تعالى: (وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين * فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن) فهي هنا استعانت عليه بالنساء وهن أئمة المكر والاحتيال، بل قال بعض أهل العلم: إن كيد المرأة قد فاق كيد الشيطان فقد قال: (إن كيدكن عظيم) واللّه قد قال في آية أخرى: (إن كيد الشيطان كان ضعيفا). ولكن لاشك أن المرأة الصالحة القانتة التائبة العابدة بعيدة عن هذا كله المهم. والمقصود أن المرأة استعانت عليه أيضا بالنسوة مرة أخرى، فالموقف قد تكرر مرة أخرى فهي بعدما راودته عن نفسه وامتنع، استعانت عليه بالنسوة لتصيد عصفورين بحجر واحد؛ أن تكيد للنسوة وتنتقم مما قلنه في حقها، وأن تستعين عليه بهن، فتجمع النسوة وتعطيهن الطعام، وتأمره بأن يخرج عليهن، فيبهرهن جماله، ويقطعن أيديهن دون أن يشعرن بذلك، فكيف بيوسف عليه السلام وهو يتعرض للمراودة مرة أخرى، ويسمع هذا الوصف من النسوة، ويسمع هذه المرأة تصرح بالسوء وتعلنه بكل جرأة ووقاحة. الأمر الثاني عشر: التوعد بالسجن والصغار؛ فإنها قالت: (لئن لم يفعل ما آمره به ليسجنن وليكوناً من الصاغرين) وهي تملك ذلك؛ فهي زوجة العزيز، والأمر بيديها، وهي ممن وصفت بالكيد العظيم وقد ثبتت قدرتها على ذلك فدخل يوسف عليه السلام السجن ولبث فيه بضع سنين.الأمر الثالث عشر: أن الزوج لم يظهر الغيرة والنخوة التي تليق بالأزواج، فحين شهد الشاهد واتضح الأمر أمامه. قال هذا الزوج الديوث ليوسف عليه السلام (أعرض عن هذا) وقال للمرأة (استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين) وانتهى الموضوع، فليس هناك ما يدعو لإثارة الموضوع ولا إثارة المشكلات.لكن يوسف عليه السلام قد حفظه الله فلم يتأثر بهذه الدوافع جمعها، وهاهو يوسف عليه السلام يعيش هذا الموقف بظروفه وملابساته، وتجتمع عليه هذه المثيرات، فينجيه الله تبارك وتعالى منه ويثبته على طاعته، فعسى أن نتعرف على قوارب نجاته في حلقة أخرى هذه الصفحة من هذه الجريدة اليومية.