طرحت قضية الهجرة غير الشرعية أو بما يعرف بالعامية "بالحرڤة"، التي تتم بواسطة ما يعرف بالقبور العائمة أو الزوارق المطاطية باتجاه الضفة الإسبانية، انطلاقا من الشواطئ الجزائرية،وخاصة من الغربية منها، العديد من التساؤلات والاستفسارات وسط الهيئات الحكومية والباحثين الذين لم يجدوا بدورهم الأسباب والدوافع الحقيقية لهذه المجازفة. فهذه الظاهرة الجديدة على مجتمعنا، لم تقتصر على الشباب فقط، أو فئة معينة من المجتمع الجزائري فحسب، بل مست الكهول ومست أيضا كلا الجنسين ذكورا وإناثا، ولم تقتصر على الفقراء والعاطلين، بل تم تسجيل وجود ميسوري الحال من موظفين ومن أصحاب الشهادات العليا، وهذا ما يمثل دلالة على وضع اجتماعي يستدعي معالجته أكبر من المعالجة الأمنية. فالسنة الفارطة، أي سنة 2009، عرفت تحركات المهاجرين السريين عدة تغييرات من حيث الخطة والمعدات، حيث تتم التخلي على "البوطيات"، أي القبور العائمة، والاستعانة بالزوارق المطاطية التي تمثل بالنسبة للحراڤة سيارة رباعية من بوسعها مقاومة الأمواج، وذلك للتقليص من نسبة المخاطر. فهذه السنة التي كانت بالنسبة لقوات خفر السواحل ومصالح الأمن الحدود، بالسنة السوداء نتيجة عدد التدخلات والتوقيفات، حيث تم اعتراض 532 من قبل مختلف الوحدات العائمة للقاعدة البحرية الغربية للوطن، فيما تمكنت شرطة الحدود بميناء وهران والغزوات من توقيف 213 مهاجرا تسلل خلسة داخل السفن التجارية، هذا فضلا عن عدد الحراڤة الذين أوقفوا السنة الجارية، والذين بلغ عددهم 138 حراڤا، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، أفادت مصادر أمنية موثوق بها أنه تم انتشال 83 جثة لشباب وإناث من مختلف الأعمار، وذلك على طول الشريط الساحلي الغربي منذ السداسي الثاني من سنة 2006 إلى غاية 2010. السلطات الإسبانية والمغربية تطالب بتحاليل الحمض النووي للكشف عن هوية جثث "الحراڤة" يحدث هذا، في الوقت الذي ندد فيه أولياء الحراڤة المفقودين البالغ عددهم ب 120 مفقودا، بالردود السلبية التي تلقوها من السلطات الجزائرية فيما يتعلق بإجراء تحاليل البصمة الوراثية من أجل تحديد هوية الجثث المتواجدة بالأراضي الاسبانية والمغربية، بعد مطالبة وزير العدل المغربي عن طريق إرسالية تلقتها جمعية أولياء مفقودي البحر مؤخرا بالبصمة الجينية للمفقودين لمقارنتها مع المعطيات المضمنة ببنك المعلومات الخاص بالجثث المجهولة الهوية المتواجدة لدى مصالح الأمن المغربي. هذا، وقد ذكرت السيدة فاطمة سعيد بورعدة نائبة رئيس جمعية مفقودي البحر أن مصير تحديد هوية جثث الحراڤة المتواجدة بمصلحة حفظ الجثث بالتراب الاسباني وبالمغرب الشقيق المعلق بإجراء تحليل الحمض النووي، وهو ما فسره السفير الجزائري بمدريد الاسبانية الذي صرح عن طريق إرسالية وجهها إلى وزارة الخارجية بتاريخ 30 مارس 2009 تحت رقم 353، يؤكد فيها أنه استعصى على الدبلوماسية الجزائرية عملية بحث وتحديد هوية الجثث الجزائرية بالأراضي الاسبانية، وذلك بفعل غياب التحليل المذكور، مؤكدة في كلامها أن الجمعية قد تلقت مساعدة ومساندة إنسانية من قبل وزير العدل المغربي في إرسالية تحت ملف 032007 التي وجهها إلى عائلات ال 120 مفقود يكشف فيها ما يلي "تباعا للموضوع المشار إليه أعلاه، يشرّفني أن أخبركم أن الأبحاث التي قامت بها مصالح الشرطة المغربية على مستوى سجن وجدة ومحافظة الناظور لمعرفة مصير الشباب الجزائريين المفقودين، لم تسفر عن أية نتيجة إيجابية لأجله. وحتى يتسنى التأكد من مصير المعنيين بالأمر، أطلب منكم موافقتي بالبصمة الجينية للمفقودين لمقارنتها مع المعطيات المضمنة ببنك المعلومات الخاص بالجثث المجهولة المتواجدة بمصلحة الشرطة المغربية". ومن أجل ذلك، تساءلت إحدى العائلات من سياسة الصمت الرهيب التي تبنته بعض الوزارات الجزائرية، وعلى رأسها وزارة التضامن والأسرة والجالية المقيمة بالمهجر، والتي توعدت في مناسبات مقابلات بالسعي وراء البحث عن هؤلاء الشباب المفقودين بالخارج، والذين من بينهم قصر وفتيات، لكن هذه الوعود ذهبت مهب الريح حسب العائلات المتضررة التي يئست من البحث والتي يبقى أملها الوحيد الوقوف على ضريح الابن المفقود منذ سنوات، بدل تلك الضغوطات البسيكولوجية التي أرهقت كاهلها، مؤكدة في كلامها أنهم لم يتلقوا أيضا الرد الشافي للتكفل بعملية تحليل الحمض النووي التي أصبحت أساسية لإرسالها إلى السلطات الاسبانية والمغربية من أجل تحديد هوية الجثث هناك . إنقاذ شاب معوق حركيا رفقة 6 آخرين من شريحة الصم والبكم مواصفات الحرڤة كانت في البداية تتمثل في القوة البدينة وصغر السن وتحمّل العوامل المناخية والمتاعب، كما أن هذه الظاهرة كانت تقتصر على الشباب اليائس وذوي السوابق العدلية المحرومين من جوازات سفر والذين فقدوا الأمل في الحصول على تأشيرة السفر، خاصة مع تشديد الخناق من جانب الدول الأوروبية على طالبي "الفيزا" من خلال فرض إجراءات تعجيزية، وهو الأمر الذي دفع بالكثير من الشباب، من بينهم جامعيين، إطارات، موظفين وشرائح أخرى، إلى تجريب حظهم للوصول إلى الضفة الأخرى التي هي بالنسبة إليهم بمثابة أرض الأحلام عبر الوسيلة الوحيدة المتاحة والمتوفرة، ألا وهي شق البحر على متن ما أصبح يعرف ب "زوارق الموت". ومن خلال التحقيقات والاستجوابات التي قمنا بها مع مختلف من الشرائح المهاجرة، حاولنا من خلال تحقيقنا تسليط الأضواء على بعض الحالات النادرة والمميزة، منها حالة الحراڤة ال 7 الذين تراوحت أعمارهم ما بين 26 و36 سنة من بينهم 6 من شريحة الصم والبكم وواحد معوق حركيا مائة بالمائة، الذين تم إنقاذهم من الهلاك المؤكد في يوم 14 أكتوبر 2006 من قبل السفينة الاسبانية المسماة ب "تراسميد مديترانيا"، فهؤلاء الحراڤة الذين كانوا يجهلون خبايا البحر أبحروا خلسة من منطقة عين تيموشنت على متن زورق مطاطي لا يتعدى طوله المترين، آملين أن يصلوا سالمين إلى الضفاف الاسبانية، لكن الرياح تهب بما لا تشتهيه السفن؛ حيث تعطل بهم المحرك ومكثوا مدة خمسة أيام كاملة دون أكل وشرب في عرض المتوسطي إلى غاية أن تم اكتشافهم من قبل السفينة المذكورة على بعد 15 ميلا بحريا شمال شواطئ سيدي اوشع بولاية عين تيموشنت. سيدة حامل قررت "الحرڤة" هروبا من مشكل السكن رفقة قاصرة السيدة ماما التي تم اعتراضها فجر يوم 12 جويلية من السنة الفارطة من قبل الوحدة العائمة 350 التابعة لقيادة حراس السواحل للواجهة الغربية، والتي كانت على متن زورق مطاطي على بعد 12 ميلا بحريا شمال غرب جزيرة "بلان" المحاذية لشاطئ بوسفر رفقة 16 مرشحا للهجرة غير الشرعية، حاولوا مغادرة الإقليم البحري الجزائري باتجاه الضفاف الاسبانية، فالسيدة ماما التي كانت رفقة فتاة قاصر تدعى "شهرة"، فهؤلاء النسوة قررن الرحيل تاركين وراءهن جملة من الاستفسارات كل واحدة منهن لها دوافعها وحجتها الخاصة التي رمت بها وسط أشخاص غرباء الذين جمعهم هدف واحد، ألا وهو مغادرة الوطن دون مراعاة مخاطر وعواقب هذه المجازفة. "ماما" البالغة من العمر 26 سنة، كانت حاملا في شهرها الثالث وتتقاسم نفس الزاوية التي كان بها الشباب الموقوفين وهي ترتدي ثيابا فاخرا ومزينة بأجمل الحلي، علامات الحيرة المرسومة على وجهها الجميل كان كل هدفها الوصول إلى الضفة الأخرى لعلها تجد حياة غير تلك التي عاشتها. ولدى اقترابنا منها، لم تود للوهلة الأولى التحدث معنا، لكن سرعان ما ارتاحت وأدلت بما يلي "لا أريد مواصلة العيش في هذه الوضعية، بحيث لا يمكنني الحصول على أدنى سبل العيش، بما فيها عمل محترم وبيت يؤوينا أنا وعائلتي الصغيرة، بل أن ظروفا أشد قساوة... فالميزيريا التي تحاصرنا على غرار المحسوبية والبيروقراطية التي عششت بإدارتنا، جعلت منا أشخاصا معدومين، فأنا لا أطلب الاستفادة من فيلا وسيارة فاخرة، بل أريد إنجاب طفلي في ظروف حسنة وملائمة وبين أحضان والده الذي تمكن منذ أسابيع في الوصول إلى التراب الاسباني"، مؤكدة في كلامها "لقد قرر الرحيل أسبوعا فقط بعد أن تم طردنا من الغرفة الوحيدة شبه المنهارة التي كنا نستأجرها بحي سيدي الهواري، حيث في البادئ قبل أن أعلن زواجي كنت أطمح وأحلم أن أكون الزوجة المثالية وتربي الأطفال مثلي مثل كل النساء الماكثات بالبيت، لكن سرعان ما أدركت العكس، فالحلم في بلادنا مستحيل، حيث تحوّلت حياتنا بعد الزفاف إلى جحيم حقيقي، فغلاء تكاليف المعيشة إلى جانب قلة الدخل اليومي، ساهم في تصنيفنا ضمن العائلات المعوزة، إلى غاية ذلك اليوم المنحوس أين تم فصل زوجي من الشغل دون سبب، فوجد نفسه مرغما على التسكع بشوارع الباهية ليل ونهار لعله يجد ما نبل به رمقنا، فهذه الوضعية المأساوية كانت سببا في فيضان الكأس، على غرار الديون التي تراكمت بسبب عدم تسديد أجرة البيت"، صمتت "ماما" قليلا ثم ردت بمعنويات منحطة "لقد هجرني زوجي ونفذ بجلده، لأجد نفسي وحيدة أصارع الحياة بين أرصفة الشوارع، لذا لا أريد شيئا من المسؤولين سوى تركنا وحالنا، لقد سئمنا المكوث داخل أرض الوطن وسط الوعود المزيفة". ونحن نتبادل الحديث مع السيدة، وإذا بالفتاة "شهرة" أصغر المغامرين الموقوفين صاحبة ا ل17 ربيعا التي كانت ترتعد من شدة الخوف: "لا أريد الذهاب إلى السجن، ألا يكفيكم السجن الكبير الذي نقبع فيه؟ نحن لسنا مجرمين أو قتلة، نريد فقط حياة سعيدة بعيدا عن الحڤرة والقهر، كما أنني لا أريد فقدان شبابي وسط المشاكل والآفات التي تحيط بنا. لا أظن أن الوضعية المعيشية التي نواجهها ستتحسن يوما ما، بل تزداد تدهورا، لذا أود بأي وسيلة أو طريقة المجازفة للوصول إلى إسبانيا الحلم، خاصة وأن السلطات الإسبانية تهتم بشكل كبير بالقصر من حيث الحقوق الإنسانية والمعيشية، حتما سأجد ما أبحث عنه بإسبانيا، بل أؤكد أنني سأجد فرصة عيش لا بأس بها هناك وأنا لا أهتم بأي شخص أو موقف يؤخذ ضدي من أعز المقربين". تلميذ في الطور المتوسط يفر من "الميزيريا" ليلة الدخول الاجتماعي أوقف حراس السواحل 11 شابا صبيحة 13 سبتمبر من سنة 2009، حاولوا التسلل بحرا عبر زورق مطاطي، ومن بينهم قاصر لم يتجاوز ال 16، وهو تلميذ كان من المفترض أن يلتحق بمقاعد الدراسة، غير أنه فضّل الحرڤة على التعلّم رفقة شقيقه الأكبر، حيث صرح بما يلي "الهدف من هذه التجربة هو أنني أعلم أن السلطات الاسبانية تتكفل ماديا ومعنويا بشريحة القصر إلى غاية بلوغهم سن الرشد، فهذه المواصفات التي أمتاز بها كادت تفتح لي أبواب النجاح هناك، والتي تبخر فور ظهور وحدة حراس السواحل التي اعترضت سبيلنا". أم مصابة بداء السرطان حطمت الرقم القياسي في "الحرڤة" ماما شهرة والأخريات، لكل منهن حكايتها وروايتها الخاصة مع مغامرة الحرڤة، لكنهن فشلن في شق المتوسطي، بينما تربعت السيدة الملقبة ب "سهيلة الكاميكاز" على عرش النساء الحراڤات، وذلك من خلال تحطيمها الرقم القياسي في اجتيازها للبحر ووضع أقدامها مرتين على التوالي بالتراب الاسباني في مدة زمنية لم تتعد الأسبوعين، لكن الديبلوماسية الجزائرية بالخارج كانت لها بالمرصاد حسب ما صرحت لنا به سهيلة "لقد دمرت حياتي على الآخر، القنصل الجزائري رفض تواجدي بالمهجر وصنفني ضمن قائمة الحراڤة المرحلين، رغم أنني كنت رفقة عائلتي الصغيرة وأطفالي الصغار، كما أنني أطلعته على الهدف من هذه المغامرة، وهو أنني قمت بهذه الفعلة من أجل العلاج". تروي لنا السيدة حكايتها، وهي لم تصدق الوضع الذي أضحت عليه "منذ مدة أصبت بمرض غريب يصيب حاسة البصر، الأمر الذي استعصى على أطبائنا تحديد حتى نوعه وسببه"، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، كشفت لنا الحراڤة عن سر يصعب على أي مرء الإفصاح أو عنه، وهو أنها تعاني أيضا من مرض خبيث على مستوى الجهاز التناسلي، حسب التقرير الطبي الذي اطلعنا عليه. ولم تكتف سهيلة بسرد مأساتها مع المشاكل الصحية، بل روت لنا حادثة تأسفت لها كثيرا: "لقد أصبحت متشردة، خاصة بعد أن طلقني زوجي مباشرة بعد خروجنا من مقر الأمن الولائي، حيث لم يرض بنصيبنا المر والعيش داخل البيت القصديري الذي كنا نحتمي به منذ سنوات، لذا قرر الرحيل.. لقد تركني أكافح مع أطفالي القصر بين أرصفة وشوارع المدينة، المرض من جهة والجوع والتشرد من جهة أخرى، رغم أنني طرقت كل الأبواب وراسلت كل الهيئات، لكن هيهات ولا حياة لمن تنادي، فلم يعد أمامي حل سوى الانتحار". يتبع...