عادت الأسواق الفوضوية لتصنع ديكور معظم مدن البلاد بعد فترة منع وردع لم تدم طويلا، والملفت أن هذا النشاط عاد بقوة وأصبح أكثر اتساعا من ذي قبل، على اعتبار أن مساحات كبيرة إضافية استغلت وشوارع طويلة عريضة أصبحت محط تجار الرصيف يفرضون فيه منطقهم، في وقت التزمت السلطات العمومية الصمت إزاء ما يحدث وتراخت أجهزة الرقابة بشكل غير مسبوق، وكأن الأمر لا يعنيها، وهي التي كانت ترفع بالأمس القريب شعار اجتثاث الأسواق الموازية نهائيا وطرحت فعلا بدائل لتنظيمها وضبط أدائها، لكن يبدو أن هذه المقترحات لن ترى النور مثلما عجزت وزارة التجارة عن فرض القانون بالشارع. من باب الوادي إلى باش جراح إلى واد كنيس، ومن ثمة إلى باب الزوار والرويبة حتى الرغاية، أصبحت "سمفونيات" صغار الباعة على الرصيف هي المنبه الصباحي اليومي للمواطنين، هو الوضع ذاته في ولايتي البليدة وبومرداس وباقي المدن الكبرى في البلاد، حيث عادت التجارة الموازية إلى النشاط بعد أشهر قليلة من الردع ولعبة "القط والفأر" بين مصالح الأمن العمومي ومئات التجار. مئات "سوبر ماركت" في الفضاء المفتوح والملاحظ خلال الجولة الاستطلاعية التي قادتنا خلال الأيام الأخيرة إلى العديد من الأسواق الفوضوية في العاصمة، أن رقعة هذه الأخيرة ما فتئت تتسع وتنتشر أكثر لتستحوذ على فضاءات وساحات جديدة وشوارع تمتد أيضا على طول مئات الأمتار، وأصبحت أيضا أسواقا كاملة، بمعنى أنها تعرض مختلف المواد الاستهلاكية الغذائية، إلى جانب الخضر والفواكه والعطارة، انضم إليهم في السنوات الأخيرة فئة الناشطين في النسيج والملابس والتجهيزات الكهرومنزلية والكهريائية والتأثيث، لتصبح الشوارع والساحات فعلا "سوبر ماركت" في الفضاء المفتوح. الأسواق الفوضوية.. نعمة ونقمة تحدثنا إلى العديد من التجار وأيضا المواطنين المتسوقين والمواطنين القاطنين بمحاذاة هذه الأسواق، وكانت تصريحاتهم متباينة. ففي وقت يعتبرها المواطنون المتسوقون متنفسا لهم، على اعتبار أنها تتيح خيارات عدة للمواطن للشراء حسب قدراته المالية بالنظر لكونها تعتمد في معظمها أسعار معقولة، لاسيما الخضر والفواكه والمواد الغذائية الاستهلاكية الأخرى، مثل البقول والحبوب الجافة ومواد التنظيف والتطهير، يرى المواطنون القاطنون في "الأحياء المحتلة" أن هؤلاء التجار خرقوا وداسوا على أدنى شروط النشاط التجاري، فهم يخلّفون وراءهم يوميا أطنانا من القمامات ويحتلون مداخل ومخارج العمارات وحظائر السيارات، وحتى المصالح الخدماتية، مثل العيادات الطبية ومراكز البريد والمدارس، وحتى بيوت الله يجد المواطنون القاطنون صعوبة كبيرة لبلوغها، في ظل الزحمة والتدفق الجماهيري الكبير على الأسواق التي تشهد الذروة ما بين الحادية عشر صباحا والثانية زوالا. أما التجار، فلهم رأي آخر، فهم وحسب تعبير جلهم بصدد "كسب قوت يومهم" عوض الانحراف والكسب الحرام. أما تشويه المحيط وعدم احترام السكان والإزعاج الذي يسببونه، فقد قالوا وبصريح العبارة "الغاية تبرر الوسيلة". "محمد.ب"، موظف وجدناه في السوق الشعبي الفوضوي بباب الزوار، يقول "جئت من بلدية المحمدية للتسوق في باب الزوار، أسعار الخضر والفواكه جد معقولة، وأيضا الملابس الجاهزة. كنت مواظبا على التسوق في هذا السوق طيلة السنوات الماضية، ومؤخرا بعد أن تم منع السوق لفترة قصيرة وجدت نفسي مرغما على التسوق من الأسواق النظامية ذات الأسعار الملتهبة.. برأيي، هذه الأسواق التي تسمى فوضوية، لكنها في حقيقة الأمر رحيمة بالمواطن، هي فقط بحاجة إلى بعض التنظيم وهذه مسؤولية السلطات العمومية التي لم تكن برأيي جادة وحازمة في التعامل مع هذا الملف، على اعتبار أن المقترح الذي أعلنت عنه وزارة التجارة بإنجاز أسواق وإعفاء صغار الباعة من الضرائب والرسوم، هي مبادرة ماتت قبل الميلاد، أو بالأحرى خطاب حوّل مباشرة إلى غرفة التجميد". أما "قدور.ش"، وهو يسكن في حي "عدل" بباب الزوار بمحاذاة السوق، يقول "نحن نعيش مأساة حقيقية، تصوروا أن هؤلاء التجار يخلّفون وراءهم كل يوم سبت وثلاثاء يومين في الأسبوع قناطير من القمامات والفضلات، نجد فيها حتى المواد السامة التي يخلّفها باعة المواد الكيميائية ضد الحشرات والزواحف، لنقوم نحن السكان بإزالتها. أضف إلى ذلك، الإزعاج الذي يسببه لنا هؤلاء من الصراخ والضجيج والكلام البذيء طيلة ساعات، وكأن الحي لا يسكنه مرضى ومعوقون ورضع وصبيان صغار بحاجة إلى قيلولة". أما "رضوان.ي"، وهو تاجر رصيف يبيع الأواني المنزلية، قال "أنا واع بحجم الضرر الذي نسببه لهؤلاء السكان، لكن الله غالب، فلقمة عيش أبنائي في هذه.. يشير إلى العربة الصغيرة". وأردف قائلا "في الحقيقة، أنا ضد تجار الخضر والفواكه الذين يخلّفون وراءهم النفايات والقمامات دون أن يكلفوا أنفسهم عناء جمعها، وقد علمت أن العديد من التجار كانوا قد اتفقوا على تنظيف الحي مباشرة بعد إغلاق السوق عند الثالثة مساء، لكن المبادرة تخلي عنها بعد عملية أو اثنتين فقط بسبب تهاون التجار". تراخي المراقبة يدخل في إطار إجراءات تهدئة الجبهة الاجتماعية وبرأي الخبراء والأخصائيين المتتبعين لملفات التجارة الموازية، فإن تراخي السلطات وتراجعها عن السياسة الحازمة التي اتخذتها مباشرة بعد شهر رمضان الماضي لاستئصال هذه الأسواق، يدخل ضمن إجراءات تهدئة الجبهة الاجتماعية عقب الاحتجاجات الأخيرة التي عاشتها البلاد، حيث شهدت العديد من المناطق اضطرابات مباشرة بعد تدخل دوريات الأمن لحجز سلع تجار الرصيف، لكنهم تساءلوا عن "حزمة الإجراءات" التي أعلن عنها وزير التجارة مصطفى بن بادة قبل أشهر، والتي وصفها ب "المستعجلة والضرورية" حين قال إن الوقت قد حان لتنظيم هذه الأسواق ومنحها صفة الشرعية من خلال إنجاز مئات الأسواق الجوارية في البلديات، تكون مدعمة لمشاريع "محلات الرئيس" وإعفاء التجار من الأعباء الضريبية، خصوصا لما نعلم أن هذه الأسواق ينشط بها أكثر من 700 ألف تاجر غير شرعي، لكن هذه الإجراءات يبدو أن تطبيقها لن يكون في الآجال القريبة، على اعتبار أنه بعد خطاب الوزير لم تتخذ أية خطوة عملية في اتجاه تحقيق هذه المبادرة، لتبقى الشوارع والساحات هي متنفس التجار الفوضويين، وأيضا للمواطنين ذوي الدخل المحدود.