لم ترهبه السحابة القاتمة التي تخيم على العالم العربي، وأصر على تقديم سينما مغايرة دقت بجرأة على عصب قضايانا وكشفت المستور، لم يبحث عن الإثارة والظهور قدر رغبته في إيصال رسالته النبيلة للمواطن المقهور، ولأنه يعرف مدى أهمية الفن في رقي الشعوب، فقد سخر وقته وجهده وفكره خدمة لقضايا الأمة، ولأنه صادق في التعامل مع الواقع فقد أضحت أعماله حديث الشارع العربي بكل طوائفه، وبذكاء ممزوج باحترافية عالية حقق في سنوات ما أعجز كبار المخرجين في عقود .. إنه المخرج الكبير "خالد يوسف" الذي خص "الأمة العربية" بهذا الحوار : منذ خروجه للنور عام 2000 بفيلم "العاصفة" كشف عن هويته كمواطن عربي لم ينفصل عن قضايا أمته، فجرح حرب "عاصفة الصحراء" 1990- 1991 كان قد أدمى الأمة من شرقها إلى غربها، وعندما شاهدت الجماهير الفيلم اختفت نظرتها للأمر، فزالت عن أعينها غشاوة التضليل التي حاول الاحتلال وعملاؤه تثبيتها في عقولنا، كان الواقع مؤلما لكنه لم يحايد الحقيقة، وهكذا تعلقت الجماهير بخالد، وأبرمت معه عقد ثقة أبدي، فانطلق في تقديم شتى أنواع الأفلام، التي لم تغفل شيئا، فقدم النقد السياسي اللاذع تحت ستار الكوميديا من خلال فيلم "جواز بقرار جمهوري"، واخترق عالم الأفلام الثقيلة والصادمة من خلال فيلم " حين ميسرة" و"دكان شحاتة"، وغاص في عالم الحركة والإثارة من خلال "ويجا"، وأبحر في المشاعر الإنسانية بكل تناقضاتها من خلال فيلم "خيانة مشروعة"، وظلت اللمسة السياسية مرافقة لجميع أعماله ولم تفارقها حتى في فيلم"أنت عمري" و"الريس عمر حرب"، ومن خلال هذا النمط الجديد والغريب لم يبق "خالد يوسف" في عباءة أستاذه "الراحل "يوسف شاهين"، وأكمل المسيرة . - عندما قال الفنان "محمود حميدة" لإبنه "هات صورة عبد الناصر نخبي بها الشرخ ده" فهذا المشهد ورغم بساطته إلا أنه يعبر بعمق عن الشرخ الذي حدث في الشخصية المصرية في الثلاثين سنة الماضية، وفي ظل نظام حكم واحد، وفي ظل غياب حقوق المواطن العربي . - الدعوات القضائية المرفوعة غريبة لأنها أقيمت قبل عرض الفيلم على الرقابة أو نزوله لدور العرض، فأحد المحامين رفع قضية لوقف عرض الفيلم دون أن يشاهده، أما الطرق الصوفية فقد غيرت موقفها بعد مشاهدة الفيلم، فأنا لم أتعرض لهم بأي شكل من الأشكال، والمشهد الموجود في الفيلم لا يمس الطرق الصوفية أو طقوسها، لأنه يرصد مجموعة من الدراويش يترنحون يمينا ويسارا على كلام في الهيام والحب، وليس كلام من كلام الطرق الصوفية، وقد اعترفوا بذلك من بعد، وأنا أعتقد أن فكرة منع فيلم فكرة شديدة التخلف، فالفيلم يرد عليه بفيلم والكتاب يرد عليه بكتاب والمقال يرد عليه بمقال . - هناك جهات سيادية طلبت مشاهدة الفيلم، ورأته وصرحت بعرضه دون حذف أي مشهد منه، لكني أعتذر عن ذكر إسم هذه الجهات . - حكايتي مع الإخراج بدأت بعد تخرجي من كليه الهندسة عام 1989 ، حيث كنت أحد المشاركين الفعالين في الحركة الطلابية بالجامعة وعينت رئيسا لاتحاد طلاب جامعة القاهرة، وبعد تخرجي شاهدني المخرج العالمي الراحل يوسف شاهين وقال لي: "أريدك أن تعمل معي في السينما .. لأني عندما تكلمت معك لاحظت أنك تتحدث بطريقة الحوار المرئي". - بالضبط .. فبعد هذا اللقاء قررت خوض التجربة، وبدأت بالفعل مع شاهين عام 1990 حيث أسند لي دور أساسي في فيلم "القاهرة منوره بأهلها"، وفى عام 1992 شاركت في كتابة السيناريو لفيلم "المهاجر"، كما عملت أيضا كمساعد مخرج في هذا الفيلم، ومن عام 1993 حتى عام 1997 عملت كمخرج مساعد ليوسف شاهين، وشاركت في كتابه السيناريو لعدة أفلام منها "المصير" و"الآخر"، وقمت بإخراج فيديو كليب للفنانة "ماجدة الرومي" لأغنية "أدم وحنان"، وفى عام 1998 بدأت في كتابة وحوار فيلمي الروائي الأول "العاصفة" وقمت بتنفيذه عام 2000 ، ليمثل مصر في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لنفس العام وفاز بالجائزة الدولية للجنة التحكيم الخاصة "الهرم الفضي" وجائزة أحسن فيلم عربي . - أنا أريد أن أتحدث عن شريحة اجتماعية تكاد تصل من 20 إلى 30 مليون مواطن مصري لا يملكون مترا مربعا على أرض مصر وهؤلاء يشعرون بالغربة، لأنها الفئة التي يعتمد عليهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والزراعية والصناعية وهؤلاء هم من يذودون بأنفسهم عن الوطن عند الحرب، وفي نفس الوقت هؤلاء لا يملكون شيئا على أرض الوطن فيشعرون بالغربة، فأردت أن أتحدث عن مفهوم الغربة وتغيرات ملامح الشخصية المصرية في ال 30 سنة الأخيرة. - أنا لا أحب أن يكون هناك مشاكل في وطني، لكني دائما ما أركز على أن الطيبة والبراءة والتسامح التي هي من أهم مزايا الشخصية المصرية تقتل كل يوم، وبدأت تختفي وهذا ينذر بكارثة. - الدولة غير مهتمة بالسينما، تقوم بعمل تشريعات تصب في خندق خنق صناعة السينما، مثل قانون الاستثمار الذي يعطي التسهيلات للشركات الكبيرة، في حين تخنق المنتج الصغير حتى الموت، فهي تدعم الغني على حساب الفقير. 20 في المائة فقط من المنتج السينمائي عندنا هو الذي يعبر بصدق عن الشخصية المصرية والباقي مجرد أنماط استهلاكية، صحيح أن الأفلام الحقيقية زادت بشكل واضح أخيرا لأن مجموعة من كبار مبدعينا عادوا للعمل السينمائي، مثل داود عبد السيد، ومجدي أحمد علي، ومحمد خان، ويسري نصر الله، وأسامة فوزي، وهذا العام في تقديري شهد نهضة سينمائية قد تخرجنا من الأزمة الثانية للسينما المصرية. طبعا، فالأزمة الأولى كانت في التسعينات، حيث عانينا من قلة عدد الأفلام وتقلص سوق الفيلم المصري، حينها لم تكن هناك قنوات فضائية تشتري الأفلام، كما أن دور العرض نفسها لم تكن كافية مثلما هو الحال اليوم، ناهيك عن منافسة الفيلم الأميركي، ثم جاء فيلم "إسماعيلية رايح جاي" ليكسر هذه الأزمة ويمنح قبلة الحياة للسينما المصرية التي كادت تحتضر، لكن للأسف فإن المنتجين آثروا الاستسهال وقدموا عشرات الأفلام الكوميدية التي تضمن أموالهم بدلا من المخاطرة في فيلم جاد، هذا خلق بدوره الأزمة الثانية في تقديري، وجعل 90 في المائة من الأفلام كوميدية وبالتالي ظلت السينما المصرية لا تعبر عن مصر لفترات طويلة. - لابد من إلغاء الرقابة على أن نحتكم جميعا إلى ضمير المبدع ووجدان الناس، وبلا شك قد ينتج عن إلغاء الرقابة ظهور عمل فظ، ولكن لكي نتقدم لابد من دفع ضريبة، فلا تقدم بلا ضرائب، فأنا مثلا أكثر الناس تأذيا بسبب عدم وجود رقابة على الصحافة، ومع ذلك يستحيل أن أسجن صحافيا حتى لو أهانني على مستوى السمعة، لأني بقدر احترامي للتجربة بقدر تحملي لضريبتها. بالتأكيد هناك تصادم ما بين منظومة القيم التي أنتمي إليها، ومنظومة القيم التي تحكم المجتمع، وذلك لأن الموروث والعادات والتقاليد بها أشياء شديدة العظمة والأصالة، ولكن أيضا بها أشياء شديدة التخلف، ولا أعتبر نفسي واحدا من أولئك الذين يتعاملون مع المسلمات كمسلمات ولا التابوهات ك "تابوهات"، أنا دائما أعيد غربلة الموروث لأخرج بما أرى أنه صالح للمستقبل، وما في أفلامي من أفكار صدمت الجمهور بقدر ما كان مرتكنا إلى مسلماته، مثلا عندما أطرح في أفلامي مفهوما مختلفا عن الشرف يساوي بين الرجل والمرأة ولا يعتبر مثلما هو الحال في المجتمعات العربية أن الإبن الذي يقيم علاقات متعددة هو في الحد الأقصى مستهتر، بينما الفتاة التي قد لا تقترف ربع ما يقترف نعتبرها في الحد الأدنى منحلة تستحق القتل، هذه ليست دعوة للانحلال ولكنها دعوة لفهم صحيح للدين وللعدل، فعندما تريد أن تطبق مقياسا للشرف طبقه على الإثنين ولكننا نعاني من ازدواجية في المعايير، ونظرتنا للمرأة ما زالت متخلفة، وعموما كل الأفكار التي أحدثت قفزات حضارية كانت صادمة في وقتها. هذا أكثر ما يؤلمني، فنحن أمة تاريخها زاخر ومشرف ورغم ذلك لا نعود إليه، السبب في اعتقادي يعود إلى غياب مؤسسات ثقافية كبيرة تدعم هذه النوعية من الأفلام، المنتج كفرد لا يستطيع أن يتحمل صناعة فيلم تاريخي تكون تكلفته أربعة أو خمسة أضعاف تكلفة الفيلم العادي، وهو ما يحجمه عن المغامرة بأمواله في فيلم من هذه النوعية، والحل الوحيد هو أن تسهم الدولة بجدية في دعم هذه الأفلام سواء بالإنتاج المباشر أو بفتح منافذ جديدة وسوق جديدة للفيلم التاريخي بخلاف السوق التقليدية، لكن الدولة لا تقوم بهذا ولا ذاك، لأنها لا تعتبر السينما مجالا جادا يستحق الدعم، بل يرونها مجرد ملاه ليلية للتسلية، وأعود لحقبة الستينات، وقتها كانت الدولة تقدر قيمة السينما ومقدرتها على تجاوز الحدود الإقليمية الضيقة، فالاهتمام كان موجودا وجادا. لدي أكثر من فيلم تاريخي، وأحاول منذ مدة تقديم الفيلم التاريخي، وفي كل مرة أصطدم بعقبة الإنتاج، فلم أجد منتجا متحمسا لصناعة فيلم تاريخي، على الرغم من أنه لو توفرت الإمكانيات اللازمة ستكون تجربة جيدة، لكن إنتاج فيلم تاريخي أعلى من سقف السوق المصرية اليوم، الأمل الوحيد هو أن تشارك مؤسسات ثقافية عربية في دعم هذه النوعية، وإلا ما فائدة الثروات العربية إن لم تساهم في خلق مناخ ثقافي عربي جاد، أذكر أنه أثناء حرب 73 قال الشيخ زايد رحمه الله "البترول العربي ليس أغلى من الدم العربي"، وأنا أقول الآن "البترول العربي ليس أغلى من الإبداع العربي" لأن الإبداع العربي هو الذي سيجعلنا ننتصر في صراع الحضارات وليس المال، العالم كله الآن يتهمنا بأن ثقافتنا متخلفة وعنيفة وعاجزة عن الإسهام الإيجابي في الحضارة الإنسانية، هذه الأفكار التي التصقت بنا لن تتغير إلا بصنع أفلام كبيرة توضح للآخر وجهة نظرنا. - هناك فيلم أعتبره من أكبر أحلامي، وهو بعنوان "الأندلس"، ومن خلال الإسم يتحدث الفيلم عن الحضارة العربية التي استمرت ثمانية قرون في الأندلس، والفيلم كتبته وأعددت السيناريو الخاص به، لكنه للأسف لايزال في درج مكتبي، والسبب هو الإنتاج، فالعمل تاريخي ويحتاج لإنتاج ضخم، وهذا غير متوفر كما أشرت من قبل. - الجزائر بلد جميل وعريق، والموهبة الفنية أحد أهم سمات الجزائريين، ومن الإجحاف أن يكون بلد بهذا التاريخ وتلك المكانة أن يتخلف فنيا، فمن حقه أن يكون من الرواد، ونحن كمصريين وكصناع فن لن نبخل بمد يدنا لأشقائنا بالجزائر من أجل دعم وترقية الساحة الفنية .