تسارعت في الآونة الأخيرة تصريحات عدد كبير من مسؤولي الإدارة الأمريكية الحالية وعلى رأسهم الرئيس باراك أوباما، تتركز في مجملها حول ضرورة وقف النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية والانطلاق في عملية تسوية تفضي إلى حل الدولتين، دولة فلسطينية في الضفة والقطاع إلى جانب إسرائيل. وفي مقابل ذلك رفضت حكومة نتنياهو مبدأ وقف النشاط الاستيطاني وإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، واستمرت في فرض الأمر الواقع الاستيطاني من خلال الاستمرار في إنشاء مزيد من المستوطنات لتصل إلى 151 مستوطنة في الضفة الغربية فيها أكثر 300 ألف مستوطن إسرائيلي، وكذلك الاستمرار في بناء جدار الفصل العنصري الإسرائيلي في عمق الضفة الفلسطينية، ولم تتوقف عمليات هدم المنازل في الأحياء العربية القديمة من مدينة القدس بغية تهويد المدينة بعد السيطرة على الأرض والقيام بعملية إحلال لمهاجرين اليهود عوضا عن العرب المقدسيين. وجنبا إلى جنب مع هذه المعطيات التي تفرضها السياسات الإسرائيلية على الأرض يوميا والتي تضرب بعرض الحائط كافة القرارات الدولية التي تؤكد على بطلان وعدم شرعية الاحتلال ومعالمه، برزت أسئلة كثيرة حول مستقبل الطموح الفلسطيني في إنشاء دولة فلسطينية في الضفة والقطاع قابلة للحياة بمقوماتها الاقتصادية والديمغرافية كهدف هام من أهداف الشعب الفلسطيني. رافق الإجراءات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية بعد اتفاقات أوسلو المعقودة في الثالث عشر من سبتمبر 1993 تصورات إسرائيلية تتركز حول إنشاء سلطة فلسطينية محدودة، بحيث يتم توسيع الحكم الذاتي الفلسطيني ليمتد على 42٪ من مساحة الضفة الغربية دون مدينة القدس، وتكون تلك الأراضي معزولة جغرافيا بالمستوطنات القائمة والجدار العازل الذي سيمتد لنحو 720 كيلومتر، ويبتلع أكثر من 50٪من مساحة الضفة الغربية البالغة 5800 كيلومتر مربع. وقد تكون مراكز المدن الفلسطينية تحت سيادة السلطة الفلسطينية لأنها تضم نحو 90٪ من مجموع السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية. وبذلك تحقق إسرائيل أهدافا ديمغرافية تسيطر من خلالها على أكبر مساحة من الأرض الفلسطينية بأقل عدد ممكن من السكان العرب. وتسعى إسرائيل إلى إبقاء سيطرتها على أوجه السيادة المختلفة ومفاتيح الدولة الفلسطينية من اقتصاد وعلاقات خارجية ومعابر، ناهيك عن سيطرتها على 81٪ من إجمالي الموارد المائية الفلسطينية المتاحة والمقدرة بنحو 750 مليون متر مكعب سنويا. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن منظمة التحرير الفلسطينية قد أعلنت عن الدولة الفلسطينية من خلال وثيقة الاستقلال في نوفمبر1988، واستمرت المنظمة في خطابها الهادف إلى إنشاء الدولة الفلسطينية على أراضي الضفة والقطاع، أي على نحو 22 ٪ من مساحة فلسطين التاريخية البالغة 27009 كيلومترات مربعة. لكن الثابت أنه رغم مرور ستة عشرة عاما على اتفاقات أوسلو، فإنها لم تفض إلى تحقيق الهدف الفلسطيني المنشود، وقد تمت إعادة انتشار وتموضع للجيش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، فقسمت الأراضي الفلسطينية في الضفة والقطاع إلى ثلاث مناطق "أ" و"ب" و"ج". بحيث تكون الأولى تحت السيادة الأمنية والإدارية للسلطة الوطنية الفلسطينية، والثانية تحت سيادة مشتركة أمنية إسرائيلية وإدارية فلسطينية، والثالثة التي تضم الريف الفلسطيني وتضم المساحة الكبرى من الضفة تكون تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة. ورغم امتداد السيادة الفلسطينية على منطقة "أ" على نحو 19٪ من مساحة الضفة والقطاع حتى انطلاقة انتفاضة الأقصى في سبتمبر/أيلول 2000، فإن الجيش الإسرائيلي ومع انطلاقة انتفاضة الأقصى في نهاية سبتمبر/أيلول 2000 عاود احتلال جميع المناطق في الضفة والقطاع. وبقي خطاب منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية إزاء إقامة الدولة الفلسطينية في اتجاهه العام يدعو إلى امتدادها إلى جميع أراضي الضفة والقطاع، وجعل عاصمتها الجزء الشرقي من القدسالمحتلة عام 1967. يلحظ المتابع لاتجاهات تطور القضية الفلسطينية ومساراتها المختلفة أن الطرف الإسرائيلي قد حاول عبر مراحل المفاوضات المختلفة وصولا إلى مفاوضات كامب دفيد عام 2000 فرض شروطه على الطرف الفلسطيني بإقامة الدولة الفلسطينية على جزء من الأراضي المحتلة مقطعة الأوصال. ووصلت أعلى نسبة من الأراضي التي يمكن أن تقام عليها تلك الدولة وفق التصورات الإسرائيلية إلى 42٪ من مساحة الضفة إبان حكومة إيهود باراك، لكن دون مساحة القدسالشرقية التي تصل إلى نحو ربع مساحة الضفة الفلسطينية، هذا فضلا عن إبقاء القسم الأكبر من المستوطنات الإسرائيلية التي تلف المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية تحت السيادة الإسرائيلية المطلقة، واستمرت السياسات الإسرائيلية من نشاط استيطاني وتضييق اقتصادي على الفلسطينيين، الأمر الذي أسس لانطلاقة الانتفاضة من باحات المسجد الأقصى بعد تدنيسها من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي -الميت سريريا أرييل شارون- يوم الخميس الموافق 28/9/2000. ورفعت الانتفاضة شعارات عديدة كان من أهمها شعار الحرية والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، وعاود الجيش الإسرائيلي احتلال مناطق السيادة الفلسطينية "أ" تحت ما تسمى عملية السور الواقي التي بدأت في نهاية مارس 2002، وجرت عمليات اغتيال إسرائيلية منظمة بعد ذلك لقيادات وكوادر فلسطينية ميدانية من كافة فصائل العمل الوطني والإسلامي على حد سواء، واستمرت تلك السياسة بصور مختلفة حتى اللحظة الراهنة، كان الهدف منها إخضاع الفلسطينيين للشروط الإسرائيلية. ورغم انعكاسات وتداعيات الظروف السياسية على الوضع الفلسطيني، تركز الخطاب السياسي المعلن للسلطة الفلسطينية حتى بعد تشكيل حكومة نتنياهو في بداية العام الحالي 2009 حول ضرورة وقف الاستيطان كشرط لاستمرار المفاوضات وبحيث تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشريف. ويمكن القول بأن المقدمات الأساسية لإنشاء الدولة الفلسطينية بمقومات اقتصادية ومادية وبشرية ستبقى محكومة ومرهونة بالموقف الأميركي ومدى جديته، إذ يتطلب الأمر الضغط الفعلي على إسرائيل من جهة والاقتناع بوجود مصلحة أميركية حقيقية في المنطقة العربية من جهة أخرى. الجانب الثاني: ما الأسس والشروط التي ينبغي توفرها لجعل الدولة الفلسطينية ممكنة؟ وما المواصفات النوعية البنيوية التي تحملها أو يفترض أن تحملها عند قيامها؟ وفي هذا السياق يمكن القول إن ثمة تفاوتا بين الموقفين الفلسطيني ممثلا بمنظمة التحرير التي ترى ضرورة أن تفضي المفاوضات مع إسرائيل إلى دولة فلسطينية على كامل مساحة الضفة والقطاع وعاصمتها القدسالشرقيةالمحتلة منذ العام 1967، في حين تشترط حكومة نتنياهو على الفلسطينيين الاعتراف بيهودية الدولة في مقابل قبولها بدولة فلسطينية منزوعة السلاح وغير محددة المعالم، الأمر الذي يعزز فكرة رفض إسرائيل لدولة فلسطينية وفق رؤى منظمة التحرير الفلسطينية. وسعيا منها لمحاصرة أهداف الفلسطينيين العليا وخاصة هدف الدولة الفلسطينية ذات السيادة في الضفة والقطاع، سرّعت حكومة نتنياهو من وتيرة النشاط الاستيطاني لتهويد أكبر مساحة ممكنة من الضفة الغربية وبشكل خاص مدينة القدس. ورغم الحديث المتكرر من قبل إدارة أوباما عن ضرورة تجميد الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية وانطلاقة عملية مفاوضات تفضي إلى دولة فلسطينية، فإن تلك التوجهات لم تكن حقيقية وفعلية، حيث لم ترافق تلك التصريحات ضغوطا واضحة على حكومة نتنياهو، بل ثمة مؤشرات على اتفاق بين إدارة أوباما وإسرائيل على استمرار النشاط الاستيطاني الإسرائيلي بأشكال ومسميات مختلفة، مثل النمو الطبيعي للمستوطنات، الأمر الذي يؤكد عدم جدية موقف إدارة أوباما بشأن حل الدولتين. وفي الاتجاه نفسه تشير المواقف الأوروبية إلى ضرورة إنشاء دولة فلسطينية، لكن السياسات الأوروبية لم ترق إلى مواجهة التعنت الإسرائيلي الرافض للفكرة المذكورة، ومن هنا نرى أن الأطراف الفاعلة في إطار العلاقات الدولية غير مقتنعة حتى اللحظة الراهنة باستخدام وسائل الضغط لإنشاء دولة فلسطينية، ومرد ذلك غياب مفاوض فلسطيني قوي مدعوم بخطاب عربي موحد لإنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة، فضلا عن العلاقات الإستراتيجية الراهنة بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل والمعبر عنها بدعم الولاياتالمتحدة لتوجهات إسرائيل السياسية والعسكرية، إضافة إلى المساعدات المالية الأميركية لإسرائيل والتي تجاوزت 110 مليارات دولار خلال الفترة الممتدة بين عامي 1951 و2009. في مقابل مواقف الأطراف الفاعلة في إطار العلاقات الدولية وكذلك الطرف الإسرائيلي من إنشاء الدولة الفلسطينية، فإن الدولة الفلسطينية ليست على مرمى حجر ولا هي مسألة وقت، لكن ثمة عوامل مساعدة تدفع باتجاه إنشائها وفي المقدمة منها وحدة الصف الفلسطيني والوصول إلى خطاب فلسطيني جامع مدعوم بموقف عربي سياسي ودبلوماسي، وقد تعزز الخطوات لجهة إنشاء دولة فلسطينية الاستفادة من مواقف بعض الدول الأوروبية الداعمة للحقوق العربية بشكل عام والحق الفلسطيني بشكل خاص. وقد تأكدت مثل تلك المواقف من خلال دعوة بعض البرلمانات الأوروبية لتشكيل لجان أوروبية ضد النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي العربية المحتلة ومقاطعة البضائع الإسرائيلية المنتجة في المستوطنات، لكن لا بد من أن تكون الخطوة الأولى بإنهاء حالة الانقسام الفلسطيني، حيث يمكن من خلالها مواجهة التحديات الجمة التي تحدق بالقضية الفلسطينية وفي مقدمتها حلم الدولة الفلسطينية.