تدفع الظروف الاجتماعية القاسية والصعبة،عشرات العائلات بولاية تيبازة إلى مغادرة المدرسة في سن جد مبكرة، لتكون وجهتهم الأسواق والموانئ والحقول، وحتى الطرقات والشوارع، علهم يظفرون بإحدى الفرص للاسترزاق وكسب القليل من المال لتغطية مصاريفهم اليومية أو لمساعدة أسرهم على توفير مصاريف الخبزة اليومية على حد قولهم لكنهم بالمقابل يدفعون الثمن غاليا، فهم في الواقع ضحايا استعباد واستغلال بشري فظيع، فأرباب العمل يشغلونهم في ظروف لا إنسانية من دون حماية أو تصريح لدى الضمان الاجتماعي، ما يجعل حياتهم وصحة أجسادهم عرضة لكل الأخطار. أما الأجر الذي يتقاضونه، فزهيد لا يتعدى أن يكون بضعة دينارات بخسة لا تسمن ولا تغني من جوع. في ظل تنامي ظاهرة عمالة الأطفال التي ما فتئت تنتشر بشكل رهيب في مجتمعنا،ارتأت جريدة "الأمة العربية" أن تسلط الأضواء على واقع الطفولة الشغيلة بمدينة البحر والجمال والسياحة "تيبازة"، واقع يوصف بالمأساوي والمحزن بالنظر لحجم المعاناة التي يتجرعها مئات الأطفال عبر مختلف ربوع الولاية والذين يرزحون تحت خط الفقر المدقع ويكابدون شتى ألوان الحرمان والبؤس، حيث تدفع بهم الحاجة إلى التوقف عن التعليم ومغادرة المدارس في سن جد مبكرة، ليلجوا عالم الشغل وهم صغار، فتجدهم يمارسون أي نشاط، فالبعض يفضّل أن يكون عمله حرا، والبعض الآخر فيشتغل لدى الخواص وأرباب العمل ولا يهم إطلاقا إن كان غير قانوني ويفوق قدراتهم الجسدية، لأن ما يهمهم في الأصل أن يعود عليهم بمدخول يضمن لهم العيش والحصول على قوتهم اليومي. إلا أن الاستطلاع الذي قامت به "الأمة العربية" عبر عدة أماكن في الولاية، كشف لنا مدى بشاعة الاستغلال الذي يتعرض له هؤلاء الأبرياء، والذي يصنف طبعا في خانة عمالة الأطفال. ظاهرة خطيرة سرعان ما بدأت في الانتشار بشكل رهيب في مجتمعنا، لتسلب الطفولة براءتها وتدوس على آمالها ومستقبلها في ظل الانعدام الكلي لأي رقابة قانونية صارمة من شأنها أن تضع حدا للانتهاكات الخطيرة في حق الصغار. فأين نحن يا ترى من تطبيق القوانين الخاصة بالعمل والتي تمنع منعا باتا تشغيل الأطفال الذين لا تتعدى أعمارهم 16 سنة؟ يبدو أننا بعيدون كل البعد عن حقائق التشريعات وتطبيقها على أرض الواقع، وهو ما نتأسف له، كيف لا والكثير من أطفال تيبازة بؤساء ومحرومون من أبسط الحقوق في الحياة والنمو والحماية من الأذى. وما يثير الاستغراب، أن تيبازة لم نعثر بها على أية جمعية لحماية وصون حقوق الطفولة، ولا يوجد بها حتى مركز للتكفل وإعادة إدماج الأطفال المتشردين والمنحرفين. يعد سوق مدينة حجوط من أشهر الأسواق الولاية، من حيث تعدد النشاطات التجارية وكثرة عدد الزبائن الذين يقصدونه من كل حدب وصوب للتبضع. وهنا بهذا المرفق التجاري، وجد العديد من الأطفال ضالتهم ليتاجروا في كل شيء يستهلك، حيث تجدهم يفترشون سلعهم على أرصفة الطرقات والشوارع، فهناك من يبع الحشائش، الخبز،الكاوكاو، الحلويات، السجائر... ولا يهم إن كان في نظر البعض نشاطا فوضويا وغير قانوني، لأن ما يشغل هؤلاء الصغار الحصول على مدخول للعيش والبقاء. وإن كان البعض يمارس هذا العمل الحر خلال العطل فقط بصفة مؤقتة، فإن البعض الآخر يشغله بصفة دائمة، معتبرا إياه مصدرا لرزقه، فالحاجة والفقر المدقع الذي يعانون منه يدفع بهم إلى ترك مقاعد الدراسة لولوج عالم الشغل، رغم صغر سنهم. فياسين مثلا، هو أحد النماذج الحية عن الأطفال العاملين والتجار الصغار، اضطر إلى التوقف عن التعليم بسبب الظروف المادية الصعبة لعائلته، ليشتغل كبائع للحشائش بسوق حجوط بعدما أصبح والده مريضا وعاجزا عن العمل، ما جعله يصبح مسؤولا عن إعالة أسرة بأكملها. اليوم يقول ياسين إن عليه أن يتحرك ويعمل، لأن لا أحد يكترث لأمره أو يمده بدينار واحد، فالحياة لا ترحم أبدا على حد تعبيره ولم نتردد في أن نسأله عن سبب تركه للمدرسة، لتكون إجابته صريحة نابعة من نفس صادقة وبريئة: "لم أستطع مواصلة تعليمي، لأن أسرتي عجزت عن توفير لي الظروف المواتية للتمدرس، فكثيرا ما كنت أطرد من قبل المعلم بسبب عدم إحضاري للأدوات المدرسية، كما أني غالبا ما أصل متأخرا بسبب بعد المدرسة عن بيتنا بحوالي 3 كلم..."، ياسين حتما يكاد يكون عينة عن مئات أبناء حجوط الذين كتب عليهم أن يشقوا ويتعبوا وهم صغار أبرياء، زهور في مقبل العمر يضحون بمستقبلهم ليعيشوا عالما باتت سماؤه باهتة، بل كالحة الأفق.. وكم حز في نفوسنا صورة ابتسام ومريم اللتان التقت بهما "الأمة العربية" بالمنبع الطبيعي لسيدي موسى، وقد أقرت هاتان الفتاتان أنهما تحترفان تجارة الخبز وبعض الخضر والفواكه منذ نعومة أظفارهما قصد الحصول على بعض المصاريف التي تسخرانها لشراء الاحتياجات الضرورية للبيت من مواد غذائية. أما الباقي، تحتفظان به لاقتناء مستلزمات الدراسة واقتناء الملابس. ويعد هذا النشاط مكسبا مربحا بالنسبة لهما، لا سيما وأن الزوار الذين يتوافدون على المنبع لجلب المياه يقبلون بشغف على شراء سلعهم. أصبحت العديد من موانئ تيبازة كشرشال، بوهارون وخميستي، مقصد عشرات الأطفال الذين يتركون المدرسة تحت ضغط الفقر والعدم، لتكون هاته الأماكن ملاذهم الوحيد للاسترزاق وكسب القوت. فحسب الاستطلاع الذي قامت به "الأمة العربية"، تبين جليا أن معظم الأطفال الذين يشتغلون بالميناء ينحدرون من عائلات ضعيفة أو معدومة الدخل، لا تستطيع توفير لهم مصاريف التعليم وظروف التمدرس، ليضطروا في الأخير إلى ترك مقاعد الدراسة في سن مبكرة قصد العمل وتأمين لقمة العيش ومساعدة أسرهم على سد مصاريف الاحتياجات اليومية الضرورية، في ظل الغلاء الفاحش للمعيشة. في حين، يعد هؤلاء الصغار مكسبا رابحا لصالح أرباب السفن الذين يستغلون بؤسهم وحاجتهم الماسة للمال، ليحمّلونهم نشاطات تفوق قدراتهم الجسدية، ما يؤثر سلبا على نموهم الطبيعي السليم، لاسيما وأنهم في مرحلة النمو، والأدهى أنهم يشتغلون في ظروف كارثية من دون حماية على حياتهم، إلا من رحم ربك، من يذهب للإقرار لدى مصالح الضمان الاجتماعي ولا داعي في أن نتحدث عن الأجرة التي يتقاضونها، لأنها زهيدة جدا تبرز بشاعة وذروة الاستغلال. كما اكتشفنا أن العديد من أطفال الموانئ ممن يقضون لياليهم هنالك، باتوا عرضة لأمراض تنفسية خطيرة تنخر أجسادهم الغضة وتقلص من أعمارهم، فالكثير منهم أقر لنا أنهم يعانون من مشاكل صحية معقدة جراء الرطوبة والبرودة الشديدة ليلا بالمرافئ، فرشيد هو أحد أطفال الموانئ. فبعدما ترك الدراسة، التحق بميناء خميستي ليشتغل كمرقع شباك: "فلولا عملي يقول رشيد لما تمكن الصيادون من الحصول على منتوج أوفر من السمك، فأنا أخيط الثغرات والفجوات التي تمزق الشباك، مما يمنع فرار السمك"، ويردف رشيد بقوله أن الحرفة التي يمارسها ليست بالهينة إطلاقا، فهي تتطلب كثيرا من الجهد والدقة والتركيز، ولم نتردد في أن نسأله عن سبب اختياره لهاته الحرفة، رغم صغره، لتكون إجابته: "لقد مرت عائلتي بظروف معيشية صعبة، وإن المنحة التي يتقاضاها والده لم تعد كافية لسد احتياجات العائلة التي تتكون من 9 أفراد، فكان لزاما علي أن أشتغل لمضاعفة مداخيل الأسرة وضمان الخبزة، لا سيما في ظل الغلاء الفاحش للمعيشة. صحيح أن الأجرة التي أتقاضاها قليلة لا تتعدى 2000 دينار أسبوعيا، إلا أنها على الأقل تضمن لي القوت اليومي. كما أنها تتيح لي شراء كل ما أريد وأقتني اللباس الذي يروق لي". أما نبيل، فليس بأحسن حال من رفيقه رشيد، فقد ترك الدراسة هو الآخر في سن مبكرة بعدما توفي والده، ليجد نفسه مسؤولا عن إعالة أسرة بأكملها، فيقصد ميناء خميستي الذي وجده ملاذه الوحيد ويشتغل كمنظف بإحدى سفن الخواص. ورغم أن الأجر الذي يتقاضاه لا يتعدى 1500 دينار أسبوعيا، إلا أنه على الأقل يقول يوفر لعائلته مصاريف الخبزة. أكبر نسبة في عمالة الأطفال بالمنطقة، يتوجهون بالعشرات للعمل بمزارع وحقول الخواص، فقد كانت العطلة الشتوية الأخيرة فرصة لا تعوض بالنسبة للكثير من أطفال المدارس، استغلوها للاشتغال قصد تحصيل القليل من المال الذي حسبما أكدوه لنا يسخرونه أساسا لشراء الأدوات المدرسية والألبسة التي يعجز آباؤهم عن توفيرها لهم بسبب ضعف أو حتى انعدام مداخيلهم، فالبعض اتخذ من العمل بالمزارع نشاطا مؤقتا، فيما اعتبره آخرون عملا دائما ومصدر رزقهم الوحيد، إذا ما علمنا أن معظمهم يقطنون بأماكن نائية وينحدرون من عائلات معوزة ومحرومة. وفعلا بهاته الأماكن، اتضح لنا جليا مدى الاستعباد والاستغلال الفظيع الذي يتعرض له الأطفال. فحسب ما كشفته مفتشية العمل بتيبازة في تصريح خصت به "الأمة العربية"، فإن القطاع الفلاحي يظل يشغل أعلى نسبة في عمالة الأطفال، حيث نجدهم يمارسون بالحقول والمزارع أعمالا مضنية وشاقة، تفوق قدراتهم الجسدية، كجني المحاصيل الزراعية وحمل صناديق الخضر والفواكه على أكتافهم لشحنها بالشاحنات، وهو ما يعترض نموهم الطبيعي السليم. ففي هذا الشأن، أكد لنا بعض الأطباء أن مثل هؤلاء الأطفال معرضون للإصابة بإعوجاج وتقوس العمود الفقري، وغيرها من العاهات الخطيرة التي تلازمهم لطوال حياتهم، ونتساءل هنا أين هم مفتشو العمل ليتحركوا ويقوموا بأدوارهم في وضع حد لاستغلال أطفالنا، وبالتالي ردع الانتهاكات الخطيرة لأصحاب المزارع الذين يتحصلون على أموال طائلة على حساب صحة ومستقبل الأطفال الأبرياء، صغار همهم الوحيد أن يسكتوا جوعهم ويستروا أجسادهم، ولا يهمهم في الحياة من شيء إلا الخبزة الحلايلية، على حد تعبيرهم.