أضحى واقع الشباب الجزائري ينذر بالموت المحتم جراء ارتفاع منحى الآفات الاجتماعية والانحرافات الخطيرة وتصاعد ظاهرة الإجرام والعنف، التي فرضت نفسها في السنوات الأخيرة، والتي تحوّلت إلى أداة قتل وهدم لكل ما يرمز للدولة والمجتمع. والأمر الذي بات أكثر من ضرورة ملحة الآن، هو البحث عن تصور علمي لمشكلات الشباب واقتراح حلول لها، لعلها تؤخذ بعين الاعتبار من قبل الوصاية وتساهم في امتصاص شتى أنواع الجرائم، التي حوّلت المجتمع الجزائري إلى غابة لا تخضع لقانون، الغلبة فيها للأقوى، والتي يروح ضحاياها شباب في مقتبل من العمر. وبغية معرفة المزيد عن الموضوع، التقت "الأمة العربية" بالأستاذ خالد عبد السلام من جامعة سطيف صاحب كتاب "الرأي الواحد"، والذي يناقش فيه بالتحليل ثقافة الإجرام عند الشباب الجزائري، وأعطى جملة من الحلول لوقف النزيف الحاد الذي يعرفه الوطن جراء الظاهرة، وكان لنا معه هذا الحوار. * "الأمة العربية": على من تقع مسؤولية انحراف الشباب وانتهاجه لسياسة الإجرام؟ ** خالد عبد السلام: إن مسؤولية الانحرافات والآفات التي يعاني منها الشباب الجزائري، تتحمّلها كل مؤسسات المجتمع، ابتداء من الأسرة، المدرسة، وسائل الإعلام، المسجد، الجمعيات والنوادي الثقافية والتربوية والرياضية، المؤسسات العمومية الرسمية كالإدارات والجماعات المحلية، الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني الفعالة بدون اسثتناء. * أليس غياب المرافق القاعدية المتمثلة في المراكز الثقافية، الرياضية والتكوينية، من أهم عوامل الانحراف الشباني؟ ** إن المشكلة ليست في توفير المرافق القاعدية، بقدر ما هي في توظيف هذه المرافق بالقدر الذي يحقق الأهداف التي أسست من أجلها وتستثمر أوقات الشباب بأنشطة نافعة، بوضع برامج ونشاطات تتجاوب مع اهتمامات وانشغالات الشباب المتنوعة، ناهيك عن توظيف مربين وموجهين ومسيرين ذوي اختصاص وكفاءة علمية ومهنية ونزاهة أخلاقية، تستطيع فهم حاجات الشباب وتتجاوب مع مشكلاتهم حتى لا تصبح محل نفور وتفقد ثقة الشباب فيها. * على ضوء دراساتكم النفسية والاجتماعية، ما هي أهم أسباب الانحراف وظهور الآفات المتأزمة بالجزائر؟ ** العوامل التي ساعدت على الانحراف الاجتماعي وتفشي الآفات المختلفة، يمكن حصرها في عدة عوامل، من أهمها انسحاب الأسرة من مسؤولية رعاية أبنائها وجعلهم تحت رحمة الشارع تارة، والبرامج التلفزيونية تارة أخرى، الأمر الذي نجم عنه ضعف آليات الاتصال وغياب ثقافة الحوار والاعتراف بالآخر في المجتمع الجزائري، ما جعل الشباب ينشأ في مناخ يمجد القوة والعنف والخروج عن القانون من إقصائه من أجندته نهائيا، علاوة على ضعف آليات المرافقة والتوجيه الشباني والتكفل بقضاياه وانشغالاته ومشكلاته من قبل كل المؤسسات الاجتماعية، الرسمية وغير الرسمية. وما زاد الطين بلة، اختلال ميزان القيم في مجتمعنا رأسا على عقب، حيث أصبحت الجدية والنزاهة في العمل من الأمور المزعجة وأصبح ينظر للتعقل والتواضع، على أنه ضعف في الشخصية والتهور والتجبر يعتبران فحولة ورجولة وأحد مظاهر القوة والاقتدار، مع عدم الاعتراف بالكفاءات الفردية للشباب، موازاة مع ظاهرة طغيان المحسوبية، فكلها قيم مقلوبة شوشت نظام تفكير الشباني وجعلته يمتثل لها ويطبقها، الأمر الذي أدى إلى سيطرة القيم المادية وغياب القيم الروحية والإنسانية، جعل الشباب يرى الحياة كلها مادة، فلا يبالي لا بالأخلاق ولا بالدين ولا بالقانون، بل همه الزهو والركوض بحثا عن المال والربح بكل الطرق المتاحة أمامه، سواء أكانت مرغوبة أو ممنوعة. كما أن عامل انعدام الثقة في مؤسسات الدولة، جعل الشباب الجزائري يتدبر شؤونه بنفسه وبطريقته الخاصة على شكل مخدرات للهروب من الواقع، وعلى شكل إجرام للانتقام من المجتمع، أو على شكل هجرة سرية، ما يعرف بظاهرة "الحرڤة" كمغامرة بالنفس للنجاح أو الموت، ولا تهم النتيجة، أو على شكل انتحار كآخر حل لكل المأساة اليومية، زيادة على تصلب الإدارة وعدم شفافيتها في تسيير شؤون الشباب وحل مشاكله، إلى جانب غياب ثقافة الخدمة العمومية وسيطرة ثقافة "المزية" والمصلحية، جعل الشباب لا يبالي بكل ما له علاقة بالدولة والإدارة والممتلكات العمومية، وعزز لديه الشعور بالتهميش و"الحڤرة"، لذلك يلجأ إلى أسلوب العنف والعصيان للقانون والتطرف والانخراط في الجماعات الإجرامية كوسيلة لتأكيد الذات وفرض الوجود. غياب التنسيق بين القطاعات والمؤسسات المعنية بقضايا الشباب، مما أضعف أدوار كل منها في رعاية وتوجيه الشباب وأفقدها الثقة والمصداقية. * ما دور الإعلام في الانحراف وظهور الإجرام بالمجتمع؟ ** تأثير فعلي عن طريق برامج وسائل الإعلام المختلفة، خاصة القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية العاطفية والإباحية على تصورات وعواطف الشباب نحو ذاته ونحو الآخرين ونحو دولته ومجتمعه، وجعلته يرى في القتل وإشباع الغرائز أمرا طبيعيا وعاديا. وما يلفت الانتباه، هو خلوه من الخطاب الديني وعدم تجاوبه مع واقع مشكلات الشباب واهتماماته، زيادة على تغييب الجامعة والبحث العلمي النفسي والاجتماعي في التشخيص والعلاج لمشكلات الشباب. * أين تكمن الحلول في علاج مشكلات الشباب؟ ** نرى بأن حل مشكلات الشباب على المدى القريب والمتوسط والبعيد المدى، يستلزم الاعتماد أولا على استراتيجية إعلامية تتكفل بطرح مشكلات الشباب، وتخصص محطات إذاعية وتلفزيونية خاصة تتوجه إليهم، ويشرف على إدارتها مختصون في مختلف العلوم الاجتماعية وتعد برامج توعية وتوجيه للأسرة لمساعدتها على مرافقة أبنائها والتكفل بمشكلاتهم وقضاياهم، مصحوبة ببرامج للشباب (تثقيفية، تكوينية، تربوية، ترفيهية، تحسيس وتوعية بالقيم الدينية والوطنية وتعزيز روح الانتماء لمجتمعه وتنمية روح المسؤولية لديه، ورفع مستوى تفكيره وتصوراته ليستطيع حل مشاكله بطرق معقولة. أما الاستراتيجية الثانية، فهي تربوية تكوينية تفعيل أدوار المؤسسات التربوية من أجل رفع المستوى التربوي والتكويني للشباب وتحصينه أخلاقيا علميا ومهنيا وثقافيا، بدل تعويده الاهتمام بالحصول على النقاط والشهادات بكل الوسائل بالتركيز على إستراتيجية إدماجية وإعادة الإدماج، بتوفير فرص العمل والانخراط في مؤسسات المجتمع ونشاطاته الاجتماعية، الثقافية التربوية والرياضية، علاوة على إستراتيجية تنسيقية وتعاونية ما بين القطاعات، العمل بشكل تكاملي بين مختلف القطاعات، التكفل الجماعي بمشكلات الشباب وقضاياه لمحاصرة بؤر الانحراف والجريمة من جميع النواحي، وينبغي البحث عن سد الثغرات القانونية التي شكّلت فراغا للوصول إلى النصوص الردعية والعقابية، القائمة على معالجة مشكلات الشباب في ضوء سياسة الدفاع الاجتماعي.