ما زالت نظرته تحدث فيها الارتباك نفسه، الذي أحدثته في أول لقاء جمعهم... وبعد أن ألقى التحية، عرض عليهم أن يوصلهم إلى البيت، "مراد" قبل العرض وصعد السيارة مباشرة، وطلب من الفتاتين الصعود، فقبلتا العرض ما دام مراد معهم. أوصل كل إلى بيته، وبقت هي آخرهم، وفي الطريق إلى البيت، فتحا النقاش.. - معذرة، يبدو أنني أزعجتك بمكالمتي.. - أبدا على العكس، أود الاعتذار منك لأنني كنت مضطرا إلى الخروج كان لدي عمل في الخارج.. - تعمل في الحادية عشر ليلا؟ تعقب على جوابه وهو لم يرد عليها .. فأضافت: ولكنك لم تتصل بي بعدها.. قالتها ثم صمتت وكأنها تسحب ما قالته.. أما هو فإن مشاعر متناقضة تغمره، فكم يسعده أن يسمع ذلك منها، بطريقتها اللحوحة والتلقائية، إنها أول مرة يحس فيها هذا الإحساس اتجاه امرأة، لقد تعود أن يسمع الكلام الجميل ولكنه لم يحركه يوما، وفي نفس الوقت لا يريد أن تتعلق به، لا يريد أن يدخلها إلى عالمه، الكئيب والمتقلب، خاصة وهويلاحظ مدى رغبتها في التقرب إليه ببراءة وعفوية لم يعهدها من قبل... كان كثير الصمت، وكانت كثيرة الكلام، استعملت كل الطرق حتى تستدرجه للبوح أكثر بما يخفيه خلف تقاسيم هذا الوجه، وهذه القامة المنتصبة وهذا الشعر الجميل... قبل أن تنزل من السيارة قال لها سأتصل بك الليلة... فردت فرحة: أجل... سأنتظرك. لم يذهب حتى دخلت المنزل، كان يتبع بنظره ذلك الجسد الذي يتحرك بكل رشاقة، في مشية طفولية، ومع ذلك لا تخلو من الفتنة... كانت جدتها "الطاووس" تطل على الشرفة حتى تلمحها تخرج من السيارة. دخلت البيت، وكان شيء من الفرح والسرور قد رسم على وجهها. - مساء الخير - مساء الخير، تجيب الجدة، وهي تنتظر توضيحا منها عن الرجل الغريب.. - إنه معارف "مراد" عرض علينا أن يوصلنا ووافقنا، كنت رفقة "سلمى" و"مراد"... حاولت ألا تظهر اهتمامها به حتى لا تقلق "جدتها" التي تعتبرها كل عائلتها بعد أن توفي والديها، أما جدتها فتعتبر "سارة" روحها، لأنها ما تبقى لها من رائحة ابنها المرحوم "سمير" وزوجته "وداد"... "الطاووس" التي لا زالت تعيش على جرحها الأليم، لم ينسها شيء عن فقدان "سمير" الذي خرج ولم يعد في أحد أيام 1988 إلا هذه البذرة...