لم تكشف مدينة “رابيدوم” التابعة لولاية المدية، عن كل أسرارها، بعدما ارتبط تاريخ هذه المدينة بالثورات التي قامت ضد قدماء الرومان، ولم تكن مدينة عسكرية فحسب بل كانت نقطة التقاء لمختلف طبقات المجتمع المحلي زمن الدولة الرومانية. تقع رابيدوم ببلدة “جواب” السهبية بين عدة أودية ومراعي خصبة، تحيط بها الجبال من كل النواحي تقريبا، يرجع تأسيسها إلى سنة 16 بعد الميلاد، وتقع على الطريق الرئيسي الرابط بين مدينة شرشال الجزائرية وقرطاج التونسية، وكان القائد الأمازيغي “تاكفاريناس” الذي فرّ من الجيش الروماني، أول من حكمها لمدة 8 سنوات قبل أن يغتال سنة 24 ميلادية، وعرفت رابيدوم ثورات كثيرة أهمها ثورة فاركاس على الحكم الروماني سنة 260 ميلادية وثورة فيرموس سنة 372 ميلادية التي امتدت إلى مدينة شرشال. ونظرا لأهمية موقعها الاستراتيجي، فإنّ رابيدوم شهدت منذ الزمان الأول قدوم الآلاف من المزارعين المحليين إليها، تماما مثل المستوطنين الرومان، وتكوّنت داخلها مجموعة من القرى الزراعية والمساكن المتراصة على أسوار المدينة التي سكنها العديد من البربر وقدماء المعمرين الرومان، وعاش الجميع تحت سطوة النظام العسكري الروماني لسنوات طويلة. وكانت المدينة العتيقة تضم بين ستة آلاف إلى ثمانية آلاف نسمة شبيهة بالمدينة الأم روما مقلدة لها حتى في نظام الحكم، فكان لها مجلس بلدي يقوم مقام مجلس الشيوخ وحاكمان بلديان يقومان مقام القناصل ينتخبان لمدة عام، وسهر على تسيير شؤونها المالية وكيلان ماليان، إضافة إلى اثنين من أعيان المجلس البلدي يشرفان على تسيير الطرقات والأسواق، وكانا يجلسان على كرسي من العاج ويلبسان حلة بيضاء. وبين الفرق الهامة التي سكنت رابيدوم، فرقة الكوهور سارادوم وفرقة الأتراكوم، مثلما تؤكده كتابات تاريخية عُثر عليها بعين المكان، وجرى اتخاذ رابيدوم من طرف الرومان كخط دفاعي لصد الهجمات الخارجية، وكان ذاك الخط يتكون من ثلاثة مستويات رئيسية هي: الخندق وتتخلله أسوار، أبراج وحصون مبنية بالحجارة، إضافة إلى شبكة من الطرق من أجل جلب الضروريات إلى المدينة، وهكذا ظلّ حال مدينة رابيدوم التي أحاطها حكامها سنة 167 م بالحجارة المقطوعة الضخمة التي بلغ ارتفاعها أربعة أمتار في بعض الجهات. وكان الدخول إلى رابيدوم يتم عن طريق ثلاثة أبواب أهمها الباب الشمالي الذي عثر به على الكتابة التي تذكر لنا اسم رابيدوم، وجرى تقسيم المدينة إلى خمسة أحياء منفصلة بواسطة أسوار صغيرة، فيما احتوى السور الذي يفصل القسم الشمالي عن القسم الجنوبي على بروج رباعية الشكل، كما توجد أبواب بين هذه الأحياء شبكة تتزود بالمياه من منبع مائي يبعد عنها حوالي كيلومترين شرقا، واعتمد السكان المحليون في جلب المياه على قناة مبنية بالحجر، محفورة في نصفها، حيث تكوّن مجرى مائي يبلغ عرضه 0.15 م مغطى بقطع من الحجارة، ومن الناحية الغربية نجد المقبرة التي تضم بها بقايا من الشواهد المزخرفة وكتابات فوق الأضرحة والقبور. وخضعت رابيدوم منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى ما يقلّ عن تسعة عشر بحث أثري، أهمها: بحث شاريي بين 1908 و1917، بحث سيقي فيلفاليي بين 1925 و1931، بحث لوقلاي بين 1949 و1953، هذا الأخير حدد لرابيدوم أربعة أبواب تتكون من ممر مركزي محاط ببرجين رباعيين على ارتفاع أربعة أمتار ونصف خارج الساحة الصغيرة. بيد أنّ مدينة رابيدوم أهملت إهمالا تاما منذ فترة ليست بالقصيرة، ففي فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر (1830 – 1962) جنحت الجيوش الكولونيالية إلى وضع مقلع للحصى بجانب المدينة، واستخدمت حجارتها من أجل تعبيد الطرقات المجاورة، وبعد استقلال الجزائر، بقي المعلم مُعرّضا يوميا لاعتداءات السكان وخاصة المزارعين والرعاة، ما جعل عديد الآثار والتحف والأحجار الكبيرة النادرة تختفي بشكل كلي، رغم تصنيف رابيدوم كمعلم تاريخي عام 1968، إلاّ أنّه لم يحظ بأي حماية، قبل أن يُعاد الاعتبار لرابيدوم خلال الخمس سنوات الأخيرة. ويرى مختصون أنّ رابيدوم لا تزال بحاجة إلى جهود جبارة من الباحثين حتى يتم الإلمام بجوانب كثيرة لا تزال مجهولة، متعلقة بتاريخ المنطقة وحضارتها، في وقت يرشح البعض “رابيدوم” لكي تصبح قطبا سياحيا هاما تدعم رصيد ولاية المدية العاصمة التاريخية ل«بايلك التيطري” في عهد الدولة العثمانية.