يخشى كثير من ممارسي الصناعات التقليدية في الجزائر من زوال عدد من المهن اليدوية هناك، على خلفية تراجع الطلب على بعض المنتجات المتعلقة بها خلال السنوات الأخيرة، بما أفضى إلى "قلق عارم" في أوساط الحرفيين، بخصوص بروز شبح تهديد حقيقي يرهن صمود حرفهم التي تستوعب الآلاف ممن ينشطون ضمن 15 ألف مؤسسة صغيرة، ويتسبب هذا الواقع في نزيف كبير، حيث فضّل الآلاف من متعاملي الصناعات التقليدية التوجه إلى أعمال أخرى، بسبب غلاء المواد الأولية سيما في صناعة الأواني الفخارية، ومختلف أنواع الخزف، "السلام" بحثت القضية مع حرفيين ومسؤولين وخبراء. وبحسب مراجع على صلة بالملف، فإنّ الصناعات التقليدية المهددة بالزوال هي تلك الموسومة بالطابع الفني، إذ تشمل كل الصناعات التي تعتمد على جريد النخيل، مثل القفة ومختلف الأطباق ذات الصنع التقليدي وكذا السلال، فضلا عن صناعة الآلات الموسيقية الوترية مثل"العود" و"القانون"، هذه الأخيرة تضاءل عدد حرفييها، تماما مثل صناعة النسيج التقليدي مثل الزرابي والأفرشة وكذا الألبسة ك"القشابية" و"البرنوس"، وتبرع الأنامل الجزائرية في إنجاز المنتجات اليدوية، على غرار الحلي والخزف والألبسة والمفروشات. ويلاحظ "عمر أوقار" صاحب 30 سنة من الخبرة في توشية المجوهرات، بأنّ تراجع الطلب على أصناف من الصناعات التقليدية أدى إلى تناقص مستمر لها، وربط ذلك بانحسار رقعة السياح الأجانب مقارنة بسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، عندما كانت المنتجات التقليدية والحرف المرتبطة بها تنتشر وتروّج بشكل واسع على غرار "العفان" وهو حذاء جلدي تقليدي، وكذا الأواني الفخارية، إضافة إلى "القشابية" والبرنوس، وكذا الصناعات التقليدية التي تعتمد على جريد النخيل مثل السلال التقليدية. ويرى "حسين عمير" المسؤول الجهوي للصناعات الصغيرة والمتوسطة والصناعات التقليدية، أنّ عدة عوامل ساهمت في تراجع الطلب على العديد من المنتجات التقليدية وبالتالي زعزعة مكانة الحرف التقليدية المرتبطة بها، خاصة تلك التي لم يستفد القائمون عليها من الدعم، ولئن كانت الصناعات التقليدية النسيجية – بحسبه - صمدت قليلا في وجه هذا الوضع لكونها استفادت من دعم الدولة، ولكونها أيضا بقيت مرتبطة بإصرار قطاع واسع من السكان المحليين على اقتناء بعض المنتجات التقليدية، إلاّ أنّ الأمر لا ينطبق على أخرى موغلة في الطابع الفني، مثل الأواني الفخارية والآلات الموسيقية الوترية وهي منتجات جرى تصنيفها بحكم الأوضاع السوسيو-اقتصادية الراهنة في الجزائر ضمن خانة "الترف الاستهلاكي"، الذي لا يقبل عليه في الغالب سوى تاجر تحف بارع أو سائح أجنبي مهووس بالمنتجات التقليدية ذات الخصوصيات الفنية العالية. ويشير "عمر مدلل" رئيس مصلحة الصناعات التقليدية بمحافظة الوادي الجنوبية، إلى أنّ معادلة العرض والطلب ليست مفصولة عن واقع تلك الصناعات، أين استفاد حرفيو النسيج من مزايا دعم، إلاّ أنّ باقي الصناعات الأخرى لم تكن في نفس المستوى من وفرة الحظ، حيث بقيت وضعيتها تراوح مكانها، علما أنّ صناعة النسيج كانت مهددة فعليا بالتلاشي، لكن دعم السلطات مكّن جمهور الحرفيين من تنفس الصعداء، عبر استفادتهم من تجهيزات ووسائل عمل. التذبذب لعنة تلاحق الحرفيين يبرز الحرفي المخضرم أحمد قريشة (55 عاما) خصوصية الدورة الإنتاجية المتذبذبة لنشاطه الحرفي، كما يبدي الحرفي ذاته الكثير من "القلق" إزاء مستقبل نشاطه الحرفي، خصوصا وأنّ تسويق هذه المنتجات غدا أمرا" نادرا" بفعل ارتباط نشاط تسويق مثل هذه المنتجات بحركية السياح الأجانب، ويعلق قريشة: "مع مرور الوقت تشكلت حالة من الخوف لدى الحرفيين الذين لا زالوا يمارسون هذه الحرف بعيدا عن الحماس المألوف". ودفعت هذه الصعوبات وغيرها إلى استغناء عديد الحرفيين عن صناعة الفخار، بعدما أضحت "غير مربحة" تماما، مع الإشارة أنّ هؤلاء الحرفيين يعانون الأمرّين في شراء المواد الأولية التي باتت مكلفة مثل "الوبر" و"الصوف"، ويقع الحرفيون أيضا تحت طائلة الصعوبات في تسويق منتجاتهم التقليدية - أو ما بقي منها على الأقل –. تواضع الطلب أفرز احتباسات تبدو وضعية محمد بوطيب حرفي في مجال الآلات الموسيقية الوترية، أكثر تعقيدا نوعا ما قياسا إلى حالات حرفيين آخرين، حيث يضطر هذا الحرفي في الغالب إلى العمل 15 يوما كاملة من أجل إنتاج آلة "عود" أو "قانون"، أو حتى إصلاح آلات موسيقية أخرى مثل "الكمان" و"الجيثار"، ويقول هذا الحرفي أنّه إضافة إلى تواضع الطلب الفردي على صناعة الآلات الموسيقية الوترية، فإنّ مثل هذه الصناعات تعطي منتجات فنية متميزة يتم الاعتماد فيها على المهارة الفائقة، وعادة ما تكون باهظة الثمن مما يزيد الأمر سوءا من حيث تسويقها. ورغم كل هذه التعقيدات وما يطبعها من نزعة تشاؤمية، إلاّ أنّ الكثير من الحرفيين الذي تحدثوا إلى "إيلاف"، يعولون على الدخول في مرحلة أخرى من النشاط تسمح لهم بإعادة تصنيع منتجات تقليدية جديدة تكون حلقة أخرى في مسار الصناعات التقليدية المحلية. ويعطي"عمير حسين" مسؤول غرفة الصناعات التقليدية والحرف، بعض "التطمينات" التي من شأنها أن تبدد "الحلقة المفرغة" التي يتخبط فيها هؤلاء الحرفيون، إذ يكشف عن مساهمة فعالة ستدخل حيز التنفيذ، وتسمح بإنجاز "مراكز شراء" تتمثل مهمتها في شراء المواد الأولية بأسعار الجملة، ثمّ إعادة بيعها للحرفيين بنفس الأسعار، على أن تقوم هذه الهيئة فيما بعد بشراء منتجات هؤلاء الحرفيين من أجل تسويقها وطنيا، ويتم ذلك من خلال توزيعها على مختلف الغرف المماثلة وكذا ضمن التظاهرات المقامة لفائدة الصناعات التقليدية خارج الجزائر. وتعتزم السلطات منح هؤلاء الحرفيين إعفاء ضريبيا لمدة عشرة سنوات كاملة، مع شراء منتجات الحرفيين بزيادة تتراوح بين 3 و5 بالمائة من السعر الأصلي لبيع هذه المنتجات، فضلا عن تغطيتها للتكاليف المرتبطة بنقل هذه المنتجات وذلك بعد تسويقها، كخطوة إضافية من أجل مساعدتهم الحرفيين على الحفاظ على نشاطهم الحرفي، فيما أشار منسق وكالة تسيير القرض المصغر نبيل وكيل إلى اتفاقية مرتقبة سوف تمكن حرفيي النشاطات التقليدية من الاستفادة من صيغ القرض المصغر لتمويل الأنشطة التي تتأكد جدواها الاقتصادية. وتبدي الحكومة اهتماما متزايدا بقطاع الصناعات التقليدية، وهو ما يظهر من خلال رصد أغلفة مالية ضخمة زادت عن 5 ملايير دينار، ويرتقب أن يستفيد من أغلفة مالية إضافية تبعا لمراهنة السلطات على الأدوار التي يمكن أن تلعبها الصناعات التقليدية ضمن النشاط الاقتصادي العام. وشهدت الجزائر العام الماضي، إنشاء أول قرية للحرف، في سياق سعيها للقضاء على البطالة وخلق ثروات منتجة. وتريد الجزائر دعم قطاع الصناعات التقليدية بحكم قدرته على امتصاص العاطلين عن العمل واكتساب يد عاملة معتبرة، علما أنّ مشروع قرية الحرف هو في حقيقته إحياء لهيكل قديم، طالما أنّ القرية بشكل مغاير كانت موجودة، حيث كان هذا الفضاء مخصصا للصناعة التقليدية، لكن محاولات تطويرها ظلت حبرا على ورق منذ سبعينيات القرن الماضي، رغم التطور الذي شهده القطاع وحجم منتجات الصناعات التقليدية الذي شهد ارتفاعا عبر مختلف مناطق البلاد. وعملت مصالح المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والصناعات التقليدية على تحضير برنامجا ثانيا موجه للقطاع اعتبارا من العام 2010 على أن يمتد إلى آفاق العام 2025، وسيكون البرنامج إياه بحسب المسؤول الأول عن القطاع، تكميليا للخطة التي شُرع في العمل بها سنة 2003، ورافقها استمرار غياب فضاءات لترقية وكذا العراقيل التي واجهها تسويق منتجات القطاع، وهما عاملان ظلا يشكلان "نقاط سوداء" في سماء محترفي الصناعات التقليدية. ويدعو الخبير عبد الحق لعميري إلى إنشاء50 ألف مؤسسة مصغرة سنويا على الأقل في هذا القطاع، في وقت يشتكي الكثير من الحرفيين من تنامي المنافسة الأجنبية في عقر دارهم، على منوال النموذج الصيني الذي اكتسح مدنا عديدة في الجزائر، واقترح منتجات هائلة وبأسعار أتت عشر مرات أقل مقارنة بالأسعار التي يقترحها الجزائريون ذاتهم، وهي مفارقة فسرها هؤلاء بغلاء المواد الأولية ومعاناتهم المستمرة من الضرائب التي تثقل كواهلهم. وتفيد بيانات وزارة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وجود ما لا يقلّ عن 13 ألف حرفي شاب ينتظرون فرصا لإنشاء مؤسساتهم الخاصة، كما أنّ آلاف الطلبات لشبان لهم مؤهلات في مجالات معرفية وأخرى يدوية وبحوزتهم تصورات مجدية اقتصاديا تنتظر الضوء الأخضر من البنوك والإدارات المعنية، مع الإشارة إلى أنّ الفترة القليلة الماضية شهدت ميلاد ثلاثمائة مؤسسة مصغرة، نشأت بدعم من الوكالة المحلية لدعم وتشغيل الشباب، ويقود هذه المؤسسات شبان تتراوح أعمارهم بين 22 و35 سنة، وتختص مؤسساتهم بالنشاط الحرفي والصناعات التقليدية من الدباغة والحلي، بينما اختار آخرون الاشتغال بقطاع الصناعات الكهربائية والفنون وكذا الطباعة، وقد مكنت هذه المؤسسات من تشغيل مئات الأشخاص، وقد تستوعب آلاف المستخدمين حال اتساعها لاحقا.