تمر بعد غد السبت الذكرى ال52 لما عُرف تاريخيا ب»اليربوع الأزرق»، ويتعلق الأمر بأولى القنابل النووية التي فجرّها المحتل الفرنسي ببلدية الحمودية التابعة لصحراء رقان صباح الثالث عشر أكتوبر 1960، ومع هذه الذكرى المؤلمة التي استخدم فيها 42 ألف جزائري ك»فئران تجارب»، لا تزال أسرار 57 جريمة نووية فرنسية في صحراء الجزائر مبهمة ومغيّبة التفاصيل، رغم انقضاء أكثر من قرن على مآسي كانت صحراء الجزائر مسرحا لها في الفترة ما بين سنتي 1960 و1966. ووصلت القدرات التدميرية لتجارب فرنسا النووية إلى 600 كيلوطنا وهو ما يفوق مفعول قنبلة هيروشيما اليابانية بأربعين مرة، وكشف خبراء في تصريحات خاصة ل»السلام»، عن حراك لإرغام الطرف الفرنسي على كشف حقيقة 60 ألف شخص استخدمتهم فرنسا كفئران تجارب في مآسي أُطلق عليها مسميات «اليربوع الأزرق والأحمر والأسود»، ويلّح هؤلاء على ضرورة استرجاع الأرشيف النووي بغرض تحديد مكان دفن النفايات السامة والمواد المشعة، وكشف العدد الحقيقي لضحايا التفجيرات النووية التي أجرتها فرنسا، وخلّفت آثارا سلبية لا تزال ماثلة وتهدد الإنسان والمكان خلال القرون المقبلة. كما روى المجاهد محمد بن جبار ضد الدولة الفرنسية (68 سنة) أحد ضحايا الإشعاعات النووية، وآخر من بقي من الشهود الجزائريين الأحياء، أنّ المنشآت التي تسلمها من الجيش الفرنسي، لم تقتصر على المخابئ التي ردمت فيها بقايا التجهيزات والمركبات البرية والجوية التي استعملت في التجارب، ولكن أيضاً محطة توليد الكهرباء التي كانت تعمل بالطاقة النووية، فضلاً عن منشآت هيدروجينية، وآلاف الأطنان من المواد الحديدية والنحاسية التي لم يتم ردمها وغيرها. ولاحظ إنّ تلك التفجيرات أفرزت مظاهر الاحتراق والقحط الذي طال الصحراء الجزائرية وقتل نباتها وحيواناتها، حتى أن الخراف والجمال صارت تلد «وحوشاً»، كما ظهرت أمراض غريبة وسط سكان المنطقة، ثم كشف العديد من العساكر والأطباء الفرنسيين إنّ جيش بلادهم استخدم سكان المناطق التي تمت فيها التفجيرات، ومنهم من استقدم من مناطق أخرى، في حقل التجارب الإشعاعية، وقد وضعوا في مناطق التفجيرات من دون وقاية، ولم يخضعوا بعدها لأي عمليات علاج من هذه الإشعاعات. وكان ابن جبار الذي رفضت محكمة تولوز الفرنسية قبول الدعوى القضائية التي رفعها عام 1985، قد غادر الجيش الوطني الشعبي قبل 32 عاما بعد أن اكتشف الأطباء أنه تعرض للإشعاعات النووية، ومنذ ذلك الحين لم يتوقف عن السعي لكشف الحقيقة حول التفجيرات النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، وقد أسس جمعية لضحايا التفجيرات النووية الفرنسية في الجزائر. وعيد حقوقي يتوعدّ حقوقيون جزائريون الدولة الفرنسية بمحاكمات خاصة، وترى المحامية الجزائرية البارزة فاطمة بن براهم، أنّ التفكير جار في إنشاء محاكم خاصة وتحريك دعاوى لمتابعة الدولة الفرنسية على جرائمها النووية في الصحراء، مشيرة إلى أنّ الأدلة كافية لفعل ذلك، وأوعزت بن براهم أنّ الوقت حان لمعاقبة فرنسا على ما ارتكبته من جرائم، التي يؤكد البروفيسور عبد الكاظم العبودي المختص في علوم الفيزياء، أنّها تعدّ كوارث نووية بكل المقاييس، وجرائم تتجاوز فضيحة المجازر ضد الإنسانية. كما أشارت بن براهم إلى حصولها على تقرير سري عسكري فرنسي يقر بإجراء التجارب المذكورة على حوالي 40 ألف جزائري، ويتحدث التقرير ذاته عن ايجاد مجموعات أشخاص مكونة من خمسمائة شخص على الأقل في كل عشرة كيلومترات سواء من السكان المستقرين أو البدو الرحل، وهو معطى يدحض الإدعاءات الفرنسية الرسمية التي سعت للايهام بخلو المناطق التي أجريت فيها التجارب النووية الفرنسية من أدنى أنواع الحياة. وتستنتج بن براهم أنّ ممثل فرنسا لدى الأممالمتحدة كذب على الرأي العام الدولي سنة 1957، حين زعم أنّ بلاده ستجري كافة تجاربها النووية في مناطق تنعدم فيها الحياة، وهو افتراء حيث واصلت فرنسا تفجير القنابل – بحسب الباحث عمار منصوري - إلى غاية سنة 1966 تاركة آثارا إشعاعية شاهدة على جرائم في حق البشرية. وتدافع بن براهم عن خطة متابعة الفرنسيين بما تنص عليه المادة الخامسة من إتفاقية روما المؤرخة في جويلية 1998، التي حددت جرائم الحرب الكبرى في المجازر والجرائم ضد الانسانية، وهو واقع يسمح للقانونيين بمحاكمة فرنسا على الجرائم التي ارتكبتها وبينها التجارب النووية، خصوصا وأنّها تمت رغم معارضة دولية لهذا النوع من التجارب السطحية، بالنظر إلى خطورتها وما ينجرّ عن سرعة انتشار السحاب النووي عبر العالم، وهو ما حدث فعلا حيث امتد إلى العديد من الدول كليبيا واسبانيا والبرتغال. ولاحظ الحقوقي المخضرم مصطفى فاروق قسنطيني أنّ الجريمة الفرنسية متواصلة، لأنّ الاشعاعات النووية لا زالت تحصد أرواح الضحايا الذين تعرضوا للإشعاعات بمادة البلوتونيوم والتي تعد الأكثر تسميما وتلويثا، وتستمر فعاليتها إلى غاية 24 ألف وأربعمائة سنة. والزائر اليوم لمنطقة رقان، يقف على خطورة إنتشار أمراض العيون وتراجع الولادات، وتوضّح أبحاث أنه ورغم مرور نصف قرن على أول تفجير نووي بالصحراء الجزائرية، إلاّ أن قطر المنطقة المحيطة، لا يزال مشعا بصفة حادة ما دفع السلطات لحظر الدخول إليها، كما أنّ المساحات التي استهدفها الإشعاع كانت شاسعة وأكبر من المتوقع ومتداخلة التأثيرات. ويؤيد المحامي عبد الحميد غرناوط مبدأ المحكمة الدولية، خصوصا في ظلّ فضاعة ما حصل ويحصل بجنوبالجزائر، حيث تفاقمت الوفيات منذ أول تفجير نووي دون أعراض مرضية معروفة، بجانب كثرة الحساسية الجلدية عند السكان المحليين، وفقدان البصر والسمع والأمراض التنفسية، وظهور أعراض غريبة على المرضى، منها ظاهرة صعوبة تخثر الدم عند الجرحى، كما لوحظت حساسية مفرطة عند الأطفال بعد إجراء بعض التلقيحات، وغالبا ما تلاحظ مضاعفات عقب تلقي المرضى لجرعات أو حقن المضادات الحيوية، كما لوحظت ظاهرة التشوهات الخلقية لدى المواليد الجدد، كصغر حجم الجمجمة أو ما يصطلح عليه طبيا ‘'ميكرو سيفالي'' أو تضخمها ‘'ماكرو سيفالي''، كما ذهبت مظاهر الربيع، وتراجع عمر الإبل إلى أقل من 20 سنة، وحتى الأشجار أصيبت بالعقم. ويعتبر الحقوقي مصطفى بوشاشي أنّ القانون الفرنسي الأخير الخاص بتعويض ضحايا التجارب النووية بالصحراء الجزائرية وبمنطقة بولينيزيا، لا يعني بأي حال الجزائريين، كون فرنسا لم تعترف إلى غاية الآن بقيامها بهذه التجارب في مناطق آهلة بالسكان، وتريد الاكتفاء بتعويض ضحايا التفجيرات النووية من العسكريين والمدنيين الذين كانوا متواجدين في قواعدها في الصحراء وبولينيزيا أو بالقرب منها. ضرورة متابعة الجناة يصرّ حاج عبد الرحمان لكصاصي رئيس ضحايا التجارب النووية الفرنسية في الجزائر، على ضرورة متابعة الجناة، ويشترط لكصاصي رئيس جمعية 13 فيفري 1960 التي تضم ضحايا التفجيرات وأقاربهم، اعتراف السلطات الفرنسية بجرائمها وتطهير المنطقة من جميع النفايات، مع إقامة هياكل صحية متطورة لمعالجة ضحايا التجارب الذين يتزايد عددهم تبعا لانتقال الأمراض من آلاف الضحايا إلى أبنائهم وأحفادهم وراثيا، علما أنّ السلطات الفرنسية تزعم أنّ عدد الضحايا لم يتجاوز الخمسمائة شخص. ويطالب لكصاصي ب»إجبار» باريس على كشف الحقيقة كل الحقيقة حول التجارب النووية الفرنسية وآثارها على الإنسان والبيئة والحيوان، ويرى لكصاصي بحتمية عدم توقف باريس عند حدود الاعتراف بالجريمة المقترفة في حق المواطنين والبلد، بل أيضا من خلال إعادتها تأهيل المنطقة من جميع الجوانب، ودعا ممثل الضحايا إلى الضغط على فرنسا حتى تكشف عن جميع ملابسات ما اقترفته. من جهته، يؤكد المؤرخ محمد القورصو على أنّ باريس مدعوة إلى فتح أرشيف التجارب النووية الفرنسية، والتكفل بضحايا التجارب النووية والدفاع عن حقوقهم المشروعة، وذلك لن يتأت بحسبه إلاّ بتعاطي المحتل القديم إيجابيا مع المسألة، وإرجاعه الأرشيف النووي الذي استولى عليه الفرنسيون. مخاطر النفايات النووية ويشدّد الباحثان الجزائريان موسى محمد الشريف ومسعود تواتي، على أنّ الإشعاعات النووية لا تزال تنبعث من مناطق التجارب النووية إلى يومنا هذا، بسبب المواد النووية وأجهزة الاستعمال التي دفنتها القوات الاستعمارية بالصحراء الجزائرية، بما أدى بحسب الباحث عمار منصوري إلى مقتل 60 ألف شخص، مع إمكانية اتساع الفاتورة البشرية، سيما مع الأضرار المترتبة عن هذه التجارب بمناطق جنوبالجزائر واستمرارها في الظهور، في وقت تبقي الجهات الفرنسية الأرشيف النووي مغلقا. وأوضح منصوري أن الإشعاعات النووية التي تسربت في الجو جراء هذه التجارب، قد تشكل خطرا مع مرور الوقت على صحة الانسان والبيئة لاسيما فيما يتعلق بالثروة النباتية والحيوانية، خصوصا مع عدم دفن النفايات النووية الناجمة عن هذه التجارب بطرق تقنية محكمة ودقيقة، خلافا لمزاعم السلطات الفرنسية التي كانت قد أشارت إلى أنّ هذه النفايات رُدمت في عمق الأرض وتمت إزالتها نهائيا. ودفاعا عن طروحاته، يستدل منصوري بدراسات أجرتها الوكالة الدولية للطاقة النووية حول خطورة التجارب النووية الفرنسية بالجزائر، وأكدت فيها مدى تضرر المناطق التي أجريت بها هذه التجارب، نتيجة تعرضها لحوادث وإنفجارات أدت إلى تسرب الإشعاعات النووية في الجو بمنطقة رقان المشتهرة بكونها تحتوي على أكبر تجمع مائي هناك، وأشار منصوري إلى خطورة التجارب النووية الباطنية من خلال معاينات أجراها على مستوى مناطق كانت عرضة لتلك التجارب، حيث اكتشف ثلاثة أقفاص احتوت على بقايا حيوانات كانت عرضة للتجارب، وهو ما يظهر زيف نفي الجهات الفرنسية التي كذبت في وقت سابق صحة إجرائها تجارب نووية على الحيوانات. هواجس 18 ورما سرطانيا أما آسيا موساي المختصة في الأورام السرطانية، فقد أكدت تعرّض سكان الجنوب لإشعاعات نووية سبّبت لهم 18 نوعا من السرطان، على غرار سرطان الثدي والغدد الدرقية والكدرية والتناسلية والنخامية، وسرطان الرئة والكبد والقولون والعظام وغيرها. كما سبّبت هذه الإشعاعات أيضا تشوهات خلقية، سواء بالنسبة للاشخاص البالغين أو الصغار وحتى الأجنة مع مرور الوقت وذلك مهما كانت نسبة تعرضهم للأشعة. وترى أن فعاليات التجارب النووية الفرنسية تزيد من ضرورة الإسراع في إصدار قانون يجرّم الاستعمار الفرنسي، وتحميله تبعات هذه الجرائم، فضلا عن استصدار قرار عالمي حول المسألة، باعتبارها جريمة حرب ومجزرة ضد الإنسانية مع حق المتابعة القضائية في المحاكم الدولية.