"فاتك انتظاري" هي المجموعة الشعرية الخامسة للشاعرة والروائية السورية انتصار سليمان بعد "لو جئت قبل الكلام"، "دروب إليك وجمر عليّ"، "ناي الأوجاع" و"أبشّرك بي" وروايتها الوحيدة "البرق وقمصان النوم"، وكلها صدرت خلال السنوات القليلة الماضية، مما يؤشر الى انغماس جدّي في "لعبة" الكتابة بأدواتها الشعرية والنثرية على السواء. تنتمي انتصار سليمان إلى جيل القصيدة السورية الجديدة الذي ينشد أحزانه الفردية، العاطفية والوجودية معا من خلال قصيدة النثر، وفي سياق ازدحام بات يطالب القارئ والناقد معا بتمعّن أكثر في محاولة التقاط الجميل والمتميز، والعثور على فضاءات مختلفة تغادر تلك التشابهات التي باتت توقعنا في ما يشبه تقليدية جديدة، آثر الشاعر السوري المقيم في اليابان محمد عضيمة أن يطلق عليها "قصيدة النثر العمودية" في إشارة لا تخفى الى ما باتت تعيشه هذه القصيدة من سكونية ومن توقف عن التجريب، والذي هو سمتها أساسا ومبرّر وجودها الأهم. انتصار سليمان في "فاتك انتظاري" (منشورات "دار بعل"، دمشق، 2008) تكتب من مساحة عاطفية تمتزج بلوعة الفقد الذي تعيشه امرأة تنتبه إلى علاقتها بالحبيب وبالعالم المحيط والزمن الراهن في ما يشبه أقانيم ثلاثة نراها ترسم صورة المشاعر وتلونها بألوانها التي تأتي في غالبيتها قاتمة ومزدحمة بالسواد: "دمائي تصطك/ شراييني تغزل حكايتها كعجوز خرساء/ قلبي يفتش عن قبعة/ ونبضي في نهاية الخدمة". لغة القصيدة إذ تنطلق من أنا الشاعرة الفردية، ترغب بشدّة أن "تقص"، أن تحكي "ما حدث" في كثافة تختصر وإن أتت مكسوّة بألوان وظلال تأخذنا نحو فضاءات شفيفة وفيها الكثير من لوعة الفقد ومن غياب اللحظة التي تنتظرها المرأة الشاعرة بهواجسها وحلمها وبرؤيتها الشعرية معا. هي قصائد تزدحم بكلام الحب الروحي مرّة والحسّي مرّات أكثر، وكأنما انتصار سليمان تغامر بكتابة قصيدة من قلب تلك الحمّى الجسدية التي تنغمس في لهب الروح فتصنع معها وبها نوافذ نصف مفتوحة على الحياة الغائبة، الزئبقية والغارقة في جحيم عالم يومي طافح بالأسى: "سيّاف اللحظة/ نحيلا كأحلامي/ شفيفا يرتضيني زوبعة/ انتشلني من أعين الوشاة/ حاملا سكّره في كأس مثلجة/ لم يكن شهريار/ بل كان هارون سيّاف اللحظة حاضرا/ أوقف وليمة الجسد القديد/ في الصبح ما يحكي/ غير صياح الديك/ لم تبح شهرزاد عن مكامن سرّها". تجربة انتصار سليمان الشعرية في هذه المجموعة الجديدة لا تبتعد كثيرا عن قصائد مجموعاتها السابقة، وإن كانت هنا تنجح في تعميق ما بدأته سابقا من مناوشة المساحة الغائمة، الحلمية والمفترضة لهموم الجسد وآلام الروح الأنثوية القلقة بأحلامها العاصفة وانتظاراتها، والتي نراها في القصائد الجديدة وقد عثرت على كلماتها الأكثر "فصاحة"، المنسوجة من تلقائية ومن مهارة معا، وخصوصا أن انتصار سليمان تعتني بتقديم هواجسها اليومية، وبلاغات عشقها بأدوات بسيطة وعميقة في الوقت ذاته. هي قصائد بوح تذهب إلى غاياتها القصوى مزدانة بالصورة الشعرية وما تحمله من حضور له مذاق الغياب وقسوته وسطوته على الروح. قراءة القصائد تضعنا مباشرة في قلب العاصفة الروحية لامرأة يسكنها الحب، تماما مثلما يسكنها الشعر، وفي جحيميهما تنتفض الكلمات كي تكتب عثار التجربة الإنسانية وجروحها وفوضاها بكثير من الولع، وبنوع من "السرد" يأتي مكثفا، عابقا بجنون اللحظة ونزقها ورحيق رغباتها: "علّقت أسمال السنين/ خلّعت أبواب المصادفة/ اندلقت في حضنه/ اصطكت كواكب النشوة/ التمع في الجسد الذهب/ ردّت أقفال غرفتها/ فاحتضنت وسائد المعنى/ وأفاقت وحيدة". في سطور انتصار سليمان الشعرية ثمة ما يأخذنا إلى عوالم إنسانية أنثوية جارحة في حلميتها. إنها الإنتظارات القاسية والمفعمة بما يقارب أناشيد اللوعة العاطفية والحسّية. لنتأمّل مثلاً هذه السطور من قصيدة حملت عنوان "قيلولة": "لرجل ينهب الوقت... يلوّن أواخر الصيف/ سأنصب خيمة عرائي/ لرجل... أحتار بمخمل صوته/ أرفع أجنحة الروح/ أحني أقواس أضلعي/ لألقمه ثدي الحنين". في القصائد تبدو اللغة مباشرة، بسيطة ومفعمة بالحرص على مجانبة التأويل، أي تأويل، إذ هي تقصد غاياتها ومعانيها، ولا تتكلّف سواها. الشاعرة تكتب "سردياتها" الشعرية في ما يشبه "خطابا" ناعما يستنفر حكاياته وتفاصيلها، ألوانها وزنبقها، تماما كما دموعها وعذاباتها، وهي تفعل ذلك ببنائية شعرية عفوية لا نلمح جهدا كبيرا لصوغها أو سبكها. فانتصار سليمان تنحاز إلى حرارة القول الشعري أكثر من انحيازها إلى التجريبية الشعرية وانشغالاتها، وهي ملاحظة لا تقلل من جماليات الشعر أو سخونته ما دامت القصائد تنجح في الوصول بنا إلى تخوم لوعة الشاعرة وجماليات عالمها الشعري الذي ننشغل بأدواته ومفرداته الفنية، ونقف على تخوم كلماته وجمله. تجربة انتصار سليمان الشعرية تتميز بين أجيال قصيدة النثر السورية بصدقيتها العالية، وانحيازها إلى العوالم الداخلية بكثير من أناقة الكلام ومن وهج العاطفة الإنسانية، ذلك أنها تكتب روحها الداخلية من دون أن تتخلى عن جدارة الشعر في إقامة عالمه الجميل، الجارح والشفيف، والطافح بألوانه، وهي في مجموعتها الجديدة "فاتك انتظاري" تنتصر لكبرياء الأنثى وتأخذ حكايات الجسد إلى ذروة عالية تطل على الشعر وعلى الآخر الذي لا بد أن ينتبه لهذه القصائد وأن يتأمّلها.