بقلم: سعيد الشهابي* بعد مرور مائة عام على الاتفاقية المشؤومة بين الدول الاستعمارية الكبرى آنذاك بريطانيا وفرنسا تتواصل سياسة التقسيم والتفتيت وتعلو أصوات التمزيق وتضخيم التباينات في أوساط أمة المسلمين حتى يبلغ الأمر أن تكون أصوات الوحدة مرفوضة يتعرض أصحابها للسخرية والتنكيل. وما أن يظهر قادة يرفعون شعار الوحدة حتى يتعرضوا لأبشع أشكال المواجهة والتنكيل. لقد فعلت سايكس بيكو فعلها وساهمت في تمزيق أوصال الأمة مائة عام خصوصا بعد الإعلان الرسمي عن انتهاء الدولة العثمانية. فبرغم ضعفها وسلبياتها كانت تمثل محور الارتكاز لأمة المسلمين في حقبة كانت القوى الاستعمارية تتقاسم النفوذ على بلاد المسلمين. وخلال القرن الماضي استهدف كل من سعى لاستعادة المجد الضائع بإقامة دولة جامعة لشتات الأمة أو توحيد كلمة مكوناتها. أصبحت كلمة الوحدة كما هي اليوم مرفوضة ليس من أعدائها فحسب بل من بعض قطاعات الأمة نفسها. رفع الإمام الشهيد حسن البنا لواء الدولة والوحدة فكان نصيبه الاستهداف ثم الاغتيال في واحدة من أشد تاريخ الأمة سوادا متزامنا مع احتلال فلسطين وإقامة الكيان الإسرائيلي. وإذا كانت الوحدة تحت شعار الإسلام مرفوضة فقد بقي المفهوم نفسه موضع تهكم وإن كان بعناوين أخرى كالقومية. ولذلك استهدف جمال عبد الناصر حين سعى لإيجاد أرضية مشتركة بين العرب على أساس القومية العربية. وحين رفع الإمام الخميني شعار الوحدة الإسلامية استقبل ذلك الشعار بعداء مكشوف من أعداء الأمة. هذه المرة كان الإعلام سلاحا ماضيا لمحاربة محاولات التقريب والوحدة. واستخدم هذا الإعلام وبقية أسلحة التمزيق بعد ما بدا من يقظة حديثة لشعوب الأمة. فالربيع العربي انطلق من أجل حرية الشعوب العربية. لأن الحرية شرط للوحدة بينما العبودية تسلب حق القرار والاختيار. هذه المرة كانت ردة فعل أعداء الأمة غير مسبوقة في وحشيتها وجنونها. فوضعت خططا ليس لمنع التحول الديمقراطي فحسب بل للقضاء على مظاهر الصحوة والوعي وإعادة الجماهير إلى السبات مجددا. إن ما حدث بعد قمع ثورات الربيع العربي لا ينفك عن مشروع النسخة المجددة لسايكس بيكو. وحيث أن من المستحيل تفكيك الأمة الواعية التي يتمتع أفرادها بحرية القرار فقد انطلق دعاة التمزيق لتنفيذ مشروعهم بطرح إيديولوجيات تقضي على الوعي وتخدر الجماهير وتشغلهم بما لا طائل فيه من الجدال العقيم وترويج مقولات الانتماء العرقي والمذهبي لضمان عدم تحقق الوحدة. فالباحثون عن الحرية في شوارع العواصم العربية في ربيع 2011 كان لدى قطاع كبير منهم بصيرة عميقة بضرورة توحيد الصف الوطني لأن ذلك شرط لانتصار الثورة. انطلق الثائر التونسي أو المصري أو اليمني أو السوري أو البحراني على أساس الانتماء للإنسانية فالبشر جميعا على اختلاف أعراقهم وأديانهم يستحقون الحرية والكرامة ولا يجوز معاملتهم بأية وسيلة حاطة بالكرامة الإنسانية. المنخرطون في مشروع التغيير الثوري كانت لديهم تجارب وخبرات في مجالات الحرية وحقوق الإنسان ولم يكونوا مشدودين للإيديولوجيات المدمرة التي تحول دون وحدة الأمة وشعوبها. كان الهتاف موحدا من تونس إلى البحرين: الشعب يريد إسقاط النظام (الذي مزق الأمة وفشل في مواجهة الاحتلال). تلك الجماهير الواعية كانت تعي أن غياب الحرية عن المجتمعات من أهم أسباب الفرقة والضعف وأن ضعف الأمة في مواجهة الاحتلال الذي استمر أكثر من ستين عاما لا يمكن تلافيه إلا بأن تكون الشعوب حاضرة في الميادين لتضمن قدرتها على اتخاذ القرار. وكثيرا ما قيل إن إنهاء احتلال فلسطين لا يحتاج أكثر من حفنة تراب من أيدي المسلمين لتغمر أرض فلسطين وتنهي الاحتلال. فكان لا بد من تغييب الوعي الذي يفضي إلى قيام كيان إسلامي بهذا الحجم. وهذا يقتضي دعم الاستبداد والتصدي لمحاولات الشعوب نيل حريتها وتقرير حق مصيرها وانتخاب أنظمة حكمها وتحديد سياساتها المحلية والدولية. أنه صراع سياسي يتخذ من الاختلافات الطبيعية والدينية وسائل لضمان التفوق في المعركة الفاصلة بين الأمة الواعية والكيان المسجى على المغتسل. حقائق مرعبة هذه الحقائق لا يختلف عليها الواعون والمخلصون من أبناء الأمة فليس هناك من رواد الحركة الإسلامية المبدئية من لا يقول بذلك. ولكن الجانب التطبيقي للقناعات مختلف تماما. مع ذلك لا بد من العمل الحثيث لتحقيق الوعي العملي الذي يتجاوز مؤامرات الآخرين وذلك باستيعاب الحقائق التالية: الأولى: إن إيجاد كيان إسلامي متماسك واجب ديني أي أن وحدة المسلمين ليست من القضايا التي يمكن إخضاعها للمناقشة أو المساومة بل إن مفهوم الأمة لا يتحقق إلا بوحدة أبنائها (وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون). وحتى في أحلك الظروف فإن على رواد الحركة الإسلامية العمل لمنع التفكك والخلاف (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم). فالأمة ستكون مستحقة للعقاب الإلهي إن هي تفرقت في الدين. الثانية: أن الأمة المتوحدة قادرة على تقرير مصيرها وذلك بالتعاون والتكاتف ومواجهة الظلم والدفاع عن المظلومين ليس من ابنائها فحسب بل من المنتمين للإنسانية. الثالثة: أن الاختلافات الاجتهادية ضمن الدين الواحد امر طبيعي لتطوير السجال العلمي والبحث وإثراء التفاعل الفكري والمعرفي ولا يجوز تحويلها إلى صراعات تؤدي للفرقة والتناحر. الرابعة: أن صراع القوى في العالم يهدف لأمور من بينها الهيمنة على بلاد المسلمين والسيطرة على ثرواتهم خصوصا النفط بالإضافة لفتح أسواقها أمام الأطماع الغربية. الخامسة: أن ما يجري في بلاد المسلمين ليس أمرا طبيعيا بل أمر مفتعل. فالتعدد العرقي أو الديني أو المذهبي ليس جديدا بل إنه موجود منذ القدم ليس في بلاد المسلمين فحسب بل في أغلب بقاع العالم. فتلك إرادة إلهية (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولا يزالون مختلفين). السادسة: إن الانشغال بالصراعات الداخلية يحول دون تحقق النهضة أو حماية الحدود أو تطوير الإمكانات أو الحفاظ على السيادة. والمنطقي أن ينبري المخلصون من أبناء الأمة كل من موقعه لإنهاء الفصل الأسود الذي أبعد الشعوب عن الصراع الحقيقي وأطمع الآخرين فيها وذلك بالتركيز على الثوابت وبث الأمل ولملمة الشمل. فتلك خطوات على الطريق الصحيح. لقد توسعت دائرة التفتيت والتمزيق حتى اتسع الفتق على الراتق. مع ذلك ما يزال ثمة مجال للسيطرة على الأمور ومنع المزيد من التداعي. ولكن ذلك يتطلب وعيا حقيقيا بالمخطط نفسه والسعي لتجاوز العصبيات العرقية والدينية بالإضافة لاستيعاب الحقائق المذكورة آنفا. الولاياتالمتحدةالأمريكية مستمرة في فرض ظاهرة القطب الواحد على النظام السياسي الدولي ولا تريد منازعا لها سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي. وبروز روسيا كلاعب أساسي في شؤون المنطقة لا يغير كثيرا من الواقع لأن روسيا ليست طرفا مستقلا في الصراع المحتدم ففي الوقت الذي تتعاون فيه مع إيران حول القضية السورية فإنها تتعاطى مع السعودية كذلك وتزود دول الخليج بالسلاح المتطور لديها. ووجودها العسكري في سوريا ينطلق من رغبتها في تثبيت موطئ قدم لها في المنطقة بعد عقود من الاستحواذ الأمريكي عليها. وليس سرا القول بأن أمريكا تسعى لتفتيت البلدان العربية الكبرى وفق خطوط التمايز العراقي والمذهبي. والواضح أن داعش أصبحت الشماعة التي توفر مادة للقوى المتعددة لتبرير التدخل الأجنبي الذي لم يؤد إلا إلى المزيد من التمزق. فالعراق يدفع ضريبة التدخل الأمريكي الذي فرض عليه نظاما سياسيا شاذا تحت عنوان (المحاصصة). وتتواصل ضغوط واشنطن على الساسة العراقيين للقبول بمقولة (الفيدرالية) التي تعني عمليا تقسيم العراق. أما في سوريا فتكشف وثيقة صادرة عن وكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية في العام 2012 كشف النقاب عنها في ماي 2015 الرغبة الغربية في تقسيم سوريا: هناك احتمال إقامة مقاطعة سلفية معلنة أو غير معلنة في شرق سوريا (الحسكة ودور الزور). وهذا ما تريده القوى الداعمة للمعارضة بالضبط لعزل النظام السوري الذي يعتبر العمق الاستراتيجي للتمدد الشيعي). ومن المؤكد أن الغربيين لا يبحثون عن مصالح السنة أو الشيعة بل يسعون لتنفيذ خططهم. ويؤكد الاستهداف الأمريكي لقوات النظام السوري في دير الزور الأسبوع الماضي هذا التوجه. فواشنطن تسعى لتقسيم البلدان الكبرى في المنطقة مثل العراق وتركيا وإيران ومصر واليمن. يفعلون ذلك تارة بتمكين المجموعات المتطرفة وأخرى بترويج مقولات تضعف السلطات المركزية في هذه البلدان تحت مقولة (حقوق الأقليات). فتحويل العراق إلى نظام فيدرالي إنما هو تقسيم فعلي للعراق وليس حماية مصالح الأقليات. وما يحدث في ليبيا كذلك ليس منفصلا عن مخطط التقسيم الذي يعتبر مقدمة لهيمنة غربية جديدة في إطار نسخة جديدة من سايكس بيكو. هذه القضايا واضحة في أذهان الكثيرين من أبناء الأمة خصوصا السياسيين من الحكام والمعارضين ولكن إرادة التصدي لها غائبة عن الجميع بل إن الانتظار المصحوب بعدم الاكتراث أو التخطيط أصبح سيد الموقف. وهذا ليس موقفا مسؤولا بل يعكس تردي الأوضاع لمستويات دنيا غير مسبوقة. فإذا كان الأمر كذلك فالنتيجة الوحيدة المتوقعة تتمثل بالمزيد من التقسيم والتجزئة والتناحر الداخلي وضياع بوصلة الجميع في أتون حروب تعيد للذاكرة ما حدث بين (أمراء الطوائف) في الأندلس قبيل السقوط النهائي للوجود الإسلامي هناك. هذه المرة يتكرر ذلك في عصر المعلومات التي توفر الأدلة والتجارب السابقة ولكن ما جدوى ذلك حين يغيب الوعي ويموت القلب؟