أود في هذه المداخلة أن أقف معكم أمام أهم المخاطر التي ينبغي علينا في حزب جبهة التحرير الوطني خصوصا وكل القوى الوطنية والمثقفين الوطنيين أن نتنبه لها ضمن فلسفة التعلق بوطنيتنا وحفاظا على دولتنا الوطنية من محاولات إلهائها عن أهداف التنمية والبناء وقصد الزج بها في الانشغال بتوترات اجتماعية في مختلف جهات الوطن وخاصة في بعض المناطق الجنوبية التي كانت تشكل صمَّام أمان وعامل استقرار للوطن ، وقد كان حريا بنا أحزابا في السلطة ومسؤولين على مختلف المستويات محليا ومركزيا أن نعير لها الاهتمام من منظور إستراتيجية بعيدة المدى وقصد استباق الحلول الناجعة للمشاكل المتوقعة من خلال الحوار والتواصل الدائم ،خصوصا وأن معظم أحزاب المعارضة في بلادنا لم يعد لها للأسف من اهتمام سوى صبِّ الزيت على النار دون مراعاة الانعكاسات السلبية الخطيرة لما يحدث على حدودنا الجنوبية والشرقية من صراعات دموية وبؤر توتر لها تأثير بالغ على مختلف الأوضاع السياسية والإنسانية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في بلادنا ، وكذا محاولة الجارة الغربية لإغراق بلادنا في حربِ استنزافٍ حقيقية ضد آفة المخدرات والموجهة أساسا لضرب الطاقة الحية للأمة وهم الشباب والمجتمع ككل. وما من شك أن القراءة التحليلية الأولية لهذه المجريات تبين أن القصد من كل هذا هو زعزعة استقرار الجزائر وصولا إلى تحقيق المخطط الشمولي الغربي الهادف ليس إلى ضرب استقرار وأمن الجزائر فقط ،ولكن تفكيك هذه الدولة الوطنية باعتبارها واحدة من القلاع الثورية التي ظلت عمليةُ إركاعها صعبة المنال على القوى الغربية والصهيونية وكل المنساقين وراء مخططاتها نتيجة المواقف التي تبنتها بلادُنا في السابق إزاء الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية وفي مقدمتها دعم حركات التحرر وقضايا الاقتصاد والنفط . ومما لا شك فيه أن المحاولات التي جرت منذ أكتوبر 1988 وأزمة تسعينيات القرن الماضي وما نتج عنها من آثار وخيمة كادت تعصف بالبلد وتُدْخِلَه في صَوْملة دموية لولا وقوف بعض المؤسسات وفي مقدمتها مؤسسة الجيش الوطني التي تصدت بحزم هي التي أبطلت مفعول هذا المخطط الذي كان يرمي لتفتيت اللحمة الوطنية بين أبناء الوطن الواحد والدين الواحد. ولعل ما كرسته الثورات العربية المزيفة منذ نهاية 2010 في العديد من الأقطار العربية مشرقا ومغربا يبين بجلاء المعالم الرئيسية لهذا المشروع الشمولي تجاه العالم العربي والإسلامي، إذ كان من آثاره تفكيكُ كثيرٍ من الدول العربية بكل مؤسساتها ومنظوماتها الاجتماعية والقانونية والعسكرية والأمنية والثقافية رغم ما نلاحظه على أنظمة تلك الدول من سلبيات وتجاوزات في التسيير وطريقة الحكم . وقد بات هذا المخطط يهدد بنسف خطير لكل مكوناتِ المجتمع ويُنذر بحروبٍ أهلية مدمرة وبتفتيت وتمزيق مجتمعات العديد من الدول باسم الطائفية الدينية والمذهبية، وباسم العرقية والعشائرية وما إلى ذلك. ولكم أن تتمعنوا الوضع في العراق والسودان وليبيا ومصر واليمن وسوريا والتهديدات المحدقة بدول أخرى من بينها السعودية نفسها. لقد جرى توظيف الدين والدين الإسلامي القائم على الأُخوةِ والتسامح والتضامن والوحدة بريء من ذلك لزعزعة كل الأسس التي تقوم عليها الهوية الوطنية الجامعة لشعوب المنطقة، وجرى التشكيك في كل شيء وصولا إلى سايكس بيكو جديد باسم ثورات الربيع العربي برعاية غربية وتنفيذ وتمويل عربي وبدعوى إحلال الديمقراطية وترشيد الحكم. وإذا كان المشروع الأول الذي رعته بريطانيا وفرنسا وباركته روسيا باسم ما عُرِفَ بالثورة العربية في 1916 قد انتهى بانهيار الإمبراطورية العثمانية وتقسيمِ ما كان يُعرف بالهلال الخصيب الذي نفَّذه توماس إدوارد لورانس وهوضابط مخابرات انجليزي عُرِف بلورانس العرب، إذ كان من نتائج ذلك المخطط لاحقا احتلال فلسطين بكل ما تبع ذلك من آثار وخيمة على العالم العربي والإسلامي خصوصا بعد التحالف الصهيوني الغربي، فإن المخطط الجديد لما يسمى بثورات الربيع العربي تم الإعداد له منذ فترة السبعينيات، وجرى الترويج له من طرف عدد من المفكرين الصهاينة والغربيين وبالأخص الصهيوني المتطرف ذو الجنسية الفرنسية برنار هنري لوفي المولود ببني صاف بالجزائر برعاية غربية رعتها خصوصا الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا وبريطانيا . وكان هذا الخطط قد وضعته عدة مؤسسات غربية فاعلة وبشَّر به مفكر أمريكي ذو توجه صهيوني هوبرنار لويس حيث كان له تأثير كبير في السياسة الأمريكية خصوصا في عهد ريغن ثم بوش الأب وبوش الإبن حيث سيطر المحافظون الجديد على دواليب الحكم ، وهم مجموعة من السياسيين والمفكرين ذوي التوجهات اليمينية المسيحية المتطرفة ،وأغلبهم من اليهود الذين يتبنون الفكر الصهيوني المغالي في فرض مجموعة من الأفكار المتطرفة بما فيها تلك الأفكار التي تخدم المصلحة الصهيونية أساسا . وكان من بين أفكار برنار لويس وهوأستاذ الدراسات الشرقية والحاصل على الجنسية الأمريكية العملُ على تفكيكِ وتفتيتٍ العالم العربي والإسلامي، إذ يقول حرفيا بهذا الصدد:إن علينا أن نظمَّهُم وهويقصد العرب والمسلمين للسيادة الأمريكية كي لا ندعهم يدمرون حضارتنا.. وقال في مقابلة صحفية نُشِرت له في 20/ 05 /2005:إن العرب والمسلمين قوم مفسدون وفوضويون لا يمكن إدخال الحضارة عليهم ، وإنهم إذا تُرِكوا بحرية فسيفاجِئون العالَم المتحضِّر، أي الغرب المسيحي بموجات بشرية إرهابية ويدمرون حضارته ويُقَوِّضون مجتمعاته . ثم يرى أن الحل لمواجهة هذا الخطر هوإعادة احتلال بلدان هؤلاء واستعمارهم من جديد وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية.. ولذلك فإنه جدير بنا أن نتمعن أبعاد هذه الفلسفة في تطبيقاتها الميدانية من خلال ما اصطلح عليها بالفوضى الخلاَّقة لنشر الديمقراطية . وقد كانت الفكرة قد ظهرت كنظريات وأفكار وتحاليل قبل ذلك بوقت مبكر فيكتابات بعض المفكرين الغربيين ،ثم بشَّرت بها كاتبة الأمريكية السابقةللخارجية كوندوليزا رايس، وهي الفوضى التي أنتجت ما عُرِفَ ب )ثورات الربيع العربي( . فهل عرفتم على مدى التاريخ أن الفوضى تنتج الديمقراطية ويتمخض عنها الربيع بكل ما يحمله من ألوان زاهية وليس استنساخ الدم الأحمر فقط ؟. لقد كان هذا الربيع )الثوري( منتوجاغربيا صهيونيا صرفا يتنافى تماما والمنظور الذي ننطلق منه نحن الجزائريون للمفهوم النبيل للثورة ومدلولاتها السامية . ذلك أن الثورة ترمي للتحرر من الاستعمار والقضاء على العبودية والظلم . كما أن الثورة تعد عملا نبيلا نابعا من فلسفة ثورية وطنية يقوم بها رجال ونساء متشبعون بالقيم الوطنية والإنسانية ويتبناها الشعب انطلاقا من المقولة الخالدة للشهيد محمد العربي بن مهيدي: القوا بالثورة للشارع يحتضنها الشعب . ولذلك فلمواجهة هذا الخطر الذي بات يتهدد كيان الدولة بالتفكيك والانهيار ويعمل على تفتيت شعوبنا ويدخلها في تقسيمات وتصنيفات مختلفة، فإن هناك عنصرا هاما بإمكانه أن يحافظ على هذا التماسك الوطني ويحول دون تفكيك الدولة وتفتيت المجتمع وهوما أصطلح عليه بالوطنية الواعية، إذ يتعين علينا كجزائريين أن نُفًعله ونُجذِّره. إن الوطنية في مفهومها العام تتمثل في حب للوطن والانتماء له والتعلق الكبير بكل مكوناته من شعب وتراب وثقافة وحضارة وتاريخ وعلم ونشيد، والدفاع عنه بكل شراسة في حالة الحرب أووقوع عدوان عليه، حتى وصف البعض الوطنية بأنها نزعة الدفاع عن الوطن . وقد كانت الوطنية متأصلة في الإنسان منذ القدم مصداقا لقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن اضطر لمغادرة مكةالمكرمة والهجرة للمدينة المنورة لنصرة دين الله : ما أطيبك من بلد ، وما أحبك إلي ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك. أما المواطنة فإضافة إلى أنها التزام بحقوق المواطن وواجباته تجاه الوطن، فقد تكون مكتسبة أومستنسخة عكس الوطنية التي تعد صفة أصيلة متأصلة لا تُكتسب عبر هجرة أو جنسية ممنوحة أومواطنة فخرية لشخص ما قد يكون قدم خدمة للإنسانية جمعاء أو لبلد معين . وفي ظل هذه المتغيرات وخاصة في ظل هذا الوضع الذي أصبحت فيه الدولة الوطنية مظلومة بهذا المصطلح بعد ظهور حكام فاسدين في كثير من الأنظمة العربية ومحاولة بعضهم )جَمْلكة ( عدد من جمهوريات ودول العالم العربي كما حدث في سوريا عندما جرى توريث الرئيس الحالي بشار الأسد للحكم من أبيه الرئيس الراحل حافظ الأسد ،وكما حاول بعد ذلك كلُّ من رئيس اليمن السابق علي عبد الله صالح ورئيس مصر الأسبق حسني مبارك توريث الحكم لأبنائهما. وعليه فإنه يتعين علينا نحن الجزائريون في ظل هذه المعطيات أن نُوظّف هذه الوطنية الواعية لترعاها نخبة المجتمع من سياسيين ذوي أفكار استشرافية مستقبلية ومتشبعين بقيم ومقومات الأمة من دين ولغة وتاريخ و حضارة وتراث وتقاليد ومن تسيير جيد ومن اكتساب للعلوم والمعارف وخطاب متجدد يتماشى وروح العصر وتسندهم في ذلك شلة من المستشارين وطبقة مثقفة معززة بالأفكار والخطط والبرامج الاستشرافية وتراقبهم معارضة وطنية لا تعارض من أجل المعارضة فقط بل تقدم هي الأخرى الحلول والأفكار والبدائل المفيدة ، وتتنافس مع أحزاب الموالاة عبر خطاب وطني متزن منافسة شريفة لا من أجل الوصول للحكم فقط وتهييج الشارع في معارضة شرسة تقوم على تحريك مفتعل لأحداث مفبركة أوتعمل على التأزيم والدعاية لتسلم الحكم بدل البدائل المفعلة لحركية التنمية والتقدم. إن مثل هذه الوطنية الواعية ستنعش الوطنية وتجددها وتفعلها على الدوام، كما ستخلق الأمل لدى المواطن في دولته ومؤسساته وفي أحزابه ومثقفيه، وستحول دون أي تفكيك للدولة أو وقوع مؤامرة عليها أو حصول تفتيت للمجتمع والشعب ككل . الوطنية الواعية يجب أن تكون أسلوبا جديدا وتفكيرا مناسبا في الحكم يعطي ألقا للوطنية ويُفَعِّلها تماما كما كانت الوطنية الثورية والوطنية الحماسية سابقا عنصرا بارزا في إحياء الوطنية وتجذيرها وسببا مباشرا في استعادة السيادة الوطنية واستقلال الجزائر. وفي اعتقادي أن الوطنية إذا لم تتجدد تتعرض للضعف والوهن وتصيبها الشيخوخة ويعتريها المرض لأنها صارت مرتبطة بعوامل اجتماعية جديدة لم تكن في السابق هي المحرك الأساسي لها وخصوصا تلك الأمور المتعلقة بالجوانب المادية للناس. وإن حزب جبهة التحرير الوطني من هذا المنطلق بوطنيته الضاربة في التاريخ والمتجذرة في الثقافة الشعبية وبخزانه البشري الهائل،وبأدبياته وتسييره على ما يزيد من نصف قرن للبلد بل ولدوره الريادي في تحرير الوطن والشعب ومساهمته في بعث الدولة الوطنية عليه أن يعمل باستمرار على بلورة هذه الثقافة الوطنية الواعية المستندة للتاريخ والتجربة والمستقبل بخطاب واضح، وببرامج وأفكار وبرجالات ونساء مجددين ويطعم كل هذا بفئات شبانية تمتلك الإرادة والعلم والمعرفة ،مستعينا بكل القوى التي تؤمن بهذا الوطن ثقافة وتاريخا وتراثا وحضارة وشعبا ودينا جامعا واحدا موحدا وبنظرة استشرافية بعيدا عن الغوغائية والشعبوية. وبدون تحقيق مثل هذه العوامل فإن الوطنية ستصبح في اعتقادي وطنية مأزومة مثلها مثل الدولة الوطنية المأزومة. وإنه علينا ونحن نرى هذه التوترات الاجتماعية التي تعم مختلف مناطق الوطن وخاصة ذلك الجنوب الهادئ والساكن سابقا ألا نغمض عيوننا ونتحول إلى نعامة تغرس رأسها في الرمل أوالتراب كلما طاردتها رصاصات الصياد، أو ننتظر العاصفة حتى تمر. الغربيون يريدون أن يعيدونا إلى حرب صليبية جديدة قصد تفكيك دولنا وتفتيت شعوبنا،وعلينا أن نواجههم بالعلم والمعرفة والعقل المستنير وليس بمنطق القوة التي علينا أن نعترف أننا لا نمتلك أدواتها. علينا أن نواجه الواقع الجديد بأفكار جديدة تقوم أولا على تحصين مختلف الأجيال بثقافتها الوطنية عبر جدار سميك لوطنية واعية وبقيم تمجد العمل وتتبنى المعرفة والعلم. الوطنية الواعية لا يجب أن تبقى مجرد شعارات وأوهام جوفاء تنتظر انتصارا قد لا يأتي في مقابلة لكرة القدم أو أية لعبة أخرى تثير الحماس فترة ولكنها تبقى بمثابة مسكن وليس عاملا ناجعا في إيجاد الحلول للمواطن. وباختصار إن الوطنية الواعية في اعتقادي ستقود بلادنا نحومستقبل واعد وتجنبها مخاطر تفكيك الدولة وتفتيت المجتمع وهي الملامح البارزة التي باتت إحدى أهم مخططات الدول الغربية تجاه بلادنا. نص المداخلة التي ألقاها الأستاذ محمد بوعزارة أثناء الندوة الفكرية التكوينية التي نظمها قطاع التكوين السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني يوم السبت الماضي بوهران