شارع المتنبي في بغداد ملتقى الأجيال القديمة من الساسة والعسكريين والمثقفين، لم يقتصر على باعة الرصيف أمثال مزهر الحاج يونس وسواه ممن مالت بهم الدنيا، وإنما أخذ يحتضن نهار كل جمعة فعاليات مختلفة من الشعر والمسرح والرسم ومعارض الكتب. فما إن شاهد الحاج يونس مسلحين يحرسون شخصيات سياسية تتجول في شارع المتنبي -الذي بناه العباسيون في القرن التاسع الميلادي مقرا للترجمة والتأليف- حتى قال (اقترب موسم انتخابات البرلمان). وأضاف أن رجال السياسة يستعرضون أنفسهم أمام هذه الطبقة المتجانسة المثقفة من المجتمع التي ترتاد الشارع كل يوم جمعة بهذا الزخم، وعندما يفوزون لا أحد يراهم إلا في التلفزيون. ويسترسل مزهر في حديثه عن معاناته الاقتصادية قائلا (راتبي التقاعدي لا يزيد عن 400 ألف دينار (380 دولار) شهريا وأسعار الغذاء والدواء الذي أحتاجه ارتفعت، لذا قررت أن أبيع ما كنت ادخرته من كتب في سالف الأيام فصار خير جليس خير معين على شظف العيش). ويشهد شارع المتنبي فعاليات ثقافية تلامس المشاكل الاجتماعية التي يواجهها الناس في حياتهم اليومية، منها مشاكل الزواج التي جاءت في مسرحية يعرضها المدير التنفيذي لمؤسسة (شعوب) الثقافية سعد ياسين موسى الذي يقول إن المسرحية تتحدث عن (قاصر تتزوج من رجل كبير يقتل في تفجير فتصبح هذه الصغيرة أرملة وهي ما زالت في طور المراهقة). ويضيف ياسين أن هدف هذه المسرحية توعية الناس بمخاطر هذه الظاهرة التي أخذت تنتشر في المجتمع وما ينجم عنها من نسب طلاق مرتفعة، مشيرا إلى أنها تعرض أيضا مشاكل الزيجات غير المسجلة في المحاكم. وفي شارع المتنبي تتشكل الجماعات بشكل تلقائي بعيدا عن التعصب الديني والمذهبي والقومي، فهنا تجمّع للشعر وهناك تجمع آخر للغناء وهنالك تجمع ثالث للفنون التشكيلية، وليس بعيدا عن المسرح الصغير الذي ينهمك فيه ياسين وفريقه في عرض مسرحيتهم، تعرض مؤسسة (المدى) للثقافة والفنون مئات الكتب في مختلف الاهتمامات. يقول المشرف على المعرض باسم ناصر إنه يضم مئات الكتب التي أصدرتها دور نشر عربية وأجنبية مرموقة، عازيا اختيار شارع المتنبي إلى أنه يضم تجمعا تلقائيا غير مسبوق أسبوعيا للنخب المثقفة من مختلف الاتجاهات. وعند حدائق بناية القشلة -وهي الجزء المطل من شارع المتنبي على نهر دجلة والتي بناها العثمانيون وأطلقوا عليها اسم (الخامنية) ومعناها مربط الخيل- تتشكل حلقات الشعر ويتجمع رواد الشارع حولها، منصتين لما يقوله الشعراء في هذا المربد الشعري المصغر التلقائي. شارع المتنبي أو سوق الوراقين العباسي ما زال يحتفظ بنكهة عاصمة العباسيين التي شعت بنورها ثقافة وعلما، فهذه مكتبة فلان وهناك مطبعة علان، وفي تلك طبعت صحف عشرينيات القرن الماضي، وعند ذاك الزقاق كانت المطبعة الحجرية ويسارها مطبعة حروف الرصاص التي تتزاحم عليها صحف العقود الأولى من القرن الماضي، وليس بعيدا عنها تعلق صور قتلى الانفجار الذي ضرب الشارع ودمر معظم مكتباته وبناياته التاريخية القديمة في مارس 2007.