حوالي ربع قرن من الزمان مر على ذكرى اندلاع أحداث 5 أكتوبر 1988، والتي غيرت مجرى تاريخ الجزائر بشكل دراماتيكي لا تزال البلاد تعاني منه إلى غاية الساعة· وبالرغم من مرور كل هذه الفترة إلا أن الغموض لا يزال يكتنف الكثير من جوانب تلك الأحداث وخلفياتها، بسبب انعدام سياسة التحليل الموضوعي والتوثيق والمتابعة الفكرية، ناهيك عن شفافية المتابعة القضائية والإعلامية لهكذا أحداث· الشعارات المعلنة والأهداف الخفية إذا كانت خلفيات وحقائق أحداث أكتوبر 1988 غير معروفة بشكل دقيق، فإن نتائجها لا تخفى على أحد، فقد أدت تلك الأحداث أو تلك الانتفاضة أو ذلك الربيع الجزائري إلى خلق ثقافة سياسية جديدة بالنسبة للشارع الجزائري، بحيث احتفى القاموس السياسي بعبارات وشعارات كبيرة جدا، مثل التعددية الحزبية والديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، وأيضا طرحت بدائل سياسية بعيدة عن البراءة وحسن النية مثل الأفلان والتاريخ إلى المزبلة أو المتحف، مما أعطى بعض الملامح للذين خططوا لتلك الأحداث· صحيح أن تلك المرحلة بالرغم من إنجازاتها العظيمة، إلا أنها كانت تستدعي التفكير الجدي في تطوير النظام السياسي خارج خيار الحزب الواحد والاقتصاد الممركز وبعض الخيارات الأخرى، التي وإن كانت جيدة ومخلصة من حيث الجانب النظري، إلا أنها وظفت لصالح فئات محدودة كانت تحتكر السلطة والثروة، ولم تحضر الأجيال لولوج مرحلة ما بعد الشرعية الثورية على أسس موضوعية ومدروسة· التطورات التي تلت تلك الأحداث غير عفوية وغير بريئة بكل المقاييس، أفضت إلى إدراك خلفية لا جدال فيها، وهي أن أحداث أكتوبر كانت من وحي وتطبيق جناح في السلطة، كان يريد مشروع مجتمع بعيدا عن الإرث الثوري وقيم أول نوفمبر وهوية الشعب وانتمائه الحضاري، ضد جناح آخر يحمل نظريا المشروع النقيض لذلك التوجه، لكنه لم يحسن الدفاع عن ذلك الخيار، كما أنه قصر في إبلاغ الرسالة بالرغم من الانجازات والمواقف الكبيرة التي جعلت من الجزائر قبل 1988 إحدى أهم الدول المحورية في المنطقة المتوسطية والإفريقية والعربية، وإحدى القوى المعنوية التي يحسب لها ألف حساب على الصعيد الدولي· باختصار، وكما دلت على ذلك مختلف التحليلات والوقائع والاستدلالات التي نزال نكتشفها إلى اليوم، كانت »انتفاضة« أكتوبر 1988 حقا أريد به باطل، أي أن هناك من استغل التذمر الشعبي لرفع شعارات كبيرة جدا، مثل التعددية الحزبية، في حين كان يخطط لنقل السلطة، المعنوية على الأقل، من الأفلان إلى التيار الفرانكوفيلي التغريبي بأتم معنى الكلمة، وقد حاول ذلك التيار فعلا عندما سعى إلى إقصاء حزب جبهة التحرير الوطني من خلال خلق ربيبة له ممثلة في الأحزاب الإسلامية، التي جيء بها لغرض واحد وهو الإسراع في تحييد الأفلان ثم الإجهاز على الكتلة الإسلامية، وهو ما حصل فعلا، لكن سرعان ما تمكن الأفلان من العودة وبقوة من خلال الصناديق، وأيضا من خلال قواعده العريضة والمتجذرة في الشارع الجزائري، الذي برهن على تمسكه بالأفلان كرمز سياسي، وأيضا كقوة قادرة على حماية البلاد من الأخطار التي أفرزها إيقاف المسار الانتخابي، والتهديدات التي كادت تعصف بالجزائر، وبذلك عاد الأفلان، ليس كحزب وحيد، بل كرقم هام في تشكيلة حزبية تمثل كل فعاليات وتوجهات المجتمع الجزائري · بذلك يمكن القول أن الهدف الظاهري من »مخطط« أكتوبر 1988 قد تحقق على يد المستهدف الأول من تلك الحداث، ألا وهو حزب جبهة التحرير الوطني· خلاصة القول، أن الزمن جعل السحر ينقلب على الساحر، كما يقول المثل، وبدل من أن يفرض التيار الفرانكوفيلي كبديل لحزب جبهة التحرير الوطني ولسائر أطراف التيار الوطني الإسلامي، أصيبت الأحزاب المسماة ديمقراطية وعصرية بانتكاسة مميتة عبر الصناديق والديمقراطية، وهي في كل يوم تزداد تراجعا بالرغم من قوة الإمتدادات التي تملكها داخل السلطة· السحر الذي انقلب على الساحر؟! هذا باختصار ما يمكن أن يقال حول تلك الأحداث، التي وبدلا من أن تكون ربيعا جزائريا للديمقراطية، تحولت إلى لعنة على الجزائر، وأدت إلى تعطل مؤسسات الدولة وتعطيل القانون، مما أدى بدوره إلى بروز ظاهرة الفساد والسطو على الأموال العامة والاغتناء غير الشرعي، وظهور طبقة أثرياء هي أقرب إلى المافيا، بحيث تزاوجت فيها أطراف في السلطة مع الفساد مستغلة آفة الإرهاب لإسكات كل الأصوات المعارضة لتدمير الجزائر تحت غطاء إنقاذها من الإرهاب والأصولية· صحيح أن الإرهاب كان كارثيا على الجزائر، دولة وشعبا، ولكن الأصح أيضا هو أنه خدم بعض الفئات التي وظفت كل وسائل الدولة لصالح نفسها· يمكن القول أن هذه النقطة تعد النتيجة الثانية لتلك الأحداث، بحيث أن المخططين لها عوضوا فشلهم السياسي والإيديولوجي ويأسهم من استغفال الشعب بنهم مالي لا حدود له، امتد منذ تلك الفترة إلى غاية اليوم، كما تدل على ذلك الأرقام التي تنشر يوميا حول الفساد في الجزائر· إن كل المؤشرات والدراسات والتحليلات الجادة لا تعتبر أحداث أكتوبر 1988 انتفاضة للشارع الجزائري أو ثورة جماهيرية وربيعا جزائريا، لأنها لم تكن عفوية ولم تحركها النخبة المثقفة أو السياسية، ولم تكن لها قيادة، ولم يكن لها مشروع واضح· هذا الفراغ الذي أحاط بتلك الأحداث مكن التيار الإسلامي من القفز عليها وتحويل مسارها من محاولة لتكسير البلاد ومعها الأفلان إلى حجر عثرة أمام المخطط التغريبي· تداخل العديد من الأطراف والمصالح والحسابات والرهانات أدى مع مرور الوقت إلى فشل كل المشاريع التي أحيطت بتلك الأحداث، فلا المخطط التغريبي فرض نفسه، ولا التعددية الحقيقية طبقت، ولا الديمقراطية نجحت في أن تكون بديلا كامل الحقوق· باختصار لقد عادت كل الأطراف إلى الوضع الذي يمكنها جميعها من التواجد والاستفادة من الجزائر والحفاظ على المصالح الخاصة وتجنب التصادم القاتل وتأجيل الخيارات التي فيها إعادة نظر في جوهر المشكل السياسي الذي تعاني منه الجزائر، والذي لم يتم الحسم فيه بالرغم من بعض الخطوات التي فرضتها أحداث الربيع العربي أكثر من التذمر الداخلي· بالنظر إلى الواقع السياسي والإعلامي والاقتصادي الراهن، وبالرغم من استتباب الأمن والوفرة المالية، فإننا نستطيع أن نقول بأن نتائج أحداث أكتوبر 1988 لم ترق إلى مستوى تضحيات الشعب الجزائري، الذي كان الخاسر الأكبر خلال العشرية السوداء، كما أنها لم تخلق ثقافة سياسية جادة، بدليل الضحالة الحزبية والسياسية التي نراها ممثلة في أغلبية الأحزاب، وهو ما أدى إلى اتساع الهوة بين القمة والقاعدة، وفقدان الثقة في الانتخابات والعزوف عن الشأن السياسي عموما· بدون مبالغة يمكن القول بأن الجزائر لم تعرف أحزابا بهذا الضعف وهذه الضحالة، حتى أثناء الأعوام الأولى للحركة الوطنية، كما أن تدني الأخلاق السياسية وانعدام الضوابط وسيطرة المال والجهوية والمحسوبية على كل دواليب الدولة، هو دليل واضح على تلك الأحداث لم يكن القصد منها بناء دولة المؤسسات وخلق ثقافة النضال وأخلقة المجتمع، بل كان المراد منها هو الحالة التي نعيشها اليوم من جمود وانسداد وتذمر جماهيري وتراجع على كل المسمويات وانعدام المبادرات وإقصاء الكفاءات· بعبارة أخرى خرجت الجزائر من تلك التجربة القاسية بخفي حنين، إن لم نقل بخسائر فادحة، أبرزها تراجع منظومة القيم والتنكر لرسالة الشهداء وطمس لمبادئ الثورة التحريرية· الدرس والعبرة من ناحية أخرى لابد من القول بأن الدولة الجزائرية واجهت امتحانا صعبا واستطاعت بمفردها وبدون مساعدة أحد رغم تواطؤ العديد من الأطراف، أن تنجز تجربة بالغة الأهمية في كيفية محاربة الإرهاب والحفاظ على كيان وسيادة الدولة، هذه المسألة لابد من تثمينها، لأنها دليل على أنه وبالرغم من كل العلامات السوداء التي ذكرناها إلا أن الجزائر بها الكثير من الكفاءات والنيات الخالصة والإرادات الصادقة التي لم تحسب الأمر بمنطق المصلحة الخاصة· بكل موضوعية يمكننا أن نتحدث عن "تجربة جزائرية رائدة" في مجال الحفاظ على وحدة الشعب وسيادة الدولة، ومحاولة إعادة بناء ما دمره الإرهاب، خاصة من الناحية المادية· أيضا على الصعيد السياسي كان مشروع المصالحة الوطنية محاولة لجمع الجزائريين حول نقطة واحدة، هي نبذ العنف والعودة إلى الحياة الطبيعية· لكن ولأن انعكاسات الخامس من أكتوبر 1988 لم تعالج بالطريقة الصحيحة، ولأن العالم الآن صار فعلا قرية صغيرة بعد ثورة وسائل وتكنولوجيات الإتصال وبفضل الشبكة العنكبوتية، تخرج من الجزائر ومن شوارعها شباب يريد التغيير، ربما ليس على طريقة 5 أكتوبر 1988، لكنه يريد أن يرحل كل من ساهم في تدمير وتخريب وتخلف الجزائر، وقد جاءت الأحداث التي يشهدها العالم العربي لكي تعيد إنتاج كل مكونات أكتوبر· فالاحتجاجات لا تنقطع والمطالب لا تتوقف، والشارع بات فعلا تحت سيطرة العصابات المتعددة الأشكال والأهداف، والجريمة باتت أكثر من مقلقة، وجل الأحزاب غائبة وعاجزة عن تأطير هؤلاء الشباب الذين وبالرغم من بعض المحاولات من طرف الدولة وبعض المشاريع، إلا أنهم لا يجدون الفضاء القادر على استيعاب طاقاتهم، وذلك بسبب عدم وجود استراتيجية جادة لاحتوائهم، وعدم ثقتهم في المؤسسات بسبب استشراء الفساد والرداءة والبيروقراطية· باختصار، كل مكونات وأجواء الخامس من أكتوبر قائمة اليوم، تنقصها فقط اليد الخفية التي توظفها في هذا الإتجاه أو ذاك!! إذا كنا نتفهم الأسباب التي جعلت الشعب الجزائري يفوت فرصة الخامس من أكتوبر بسبب غموضها وتعارض أهدافها مع روح وضمير الأمة، فإننا لا نفهم سبب تقاعس النخبة الجزائرية عن القيام بمهامها في تنوير الأمة وتبني خيار التغيير الديمقراطي السلمي، الذي يراعي المساواة في الحظوظ وحقوق الانسان والحريات والتداول على السلطة من خلال الانتخابات الحرة والنزيهة· إن تفادي العودة إلى نفس أحداث أكتوبر لن يكون إلا من خلال استخلاص العبر وتطهير الممارسة السياسية ومحاربة الفساد وتشبيب التركيبة الحزبية والقيادية والمؤسساتية، والشروع في بناء استراتيجية اقتصادية وسياسية وثقافية، بعيدا عن الديماغوجية والتلاعب بمصالح الناس وتضييع الوقت على الجزائر والجزائريين·