أصيب العقل المسلم، بسبب التخلف الحضاري، بآفتين خطرتين، تتمثل الأولى في ما يمكن أن نطلق عليه ذهان »الاستحالة«، فأصبح يقف أمام التقدم الحاصل عند غيره، وقفة المنبهر المذهول، يحتقر نفسه ولا يرى من سبيل للإسهام فيه ناهيك عن اللحاق به، وتحول الفرد المسلم إلى زبون مستهلك، لما ينتجه غيره، ويربط بين تقدم الآخر التقني وما يدور في عالمه هذا الآخر من قيم، وبدل أن يحاكي تقدمه العلمي والتقني، راح يستدعي تلك القيم ونمط الحياة إلى عالمه وواقع حياته، كأسلوب تعويض عن خسائره وانتكاسته في مجالي العلم والعمل. والآفة الأخرى، تتمثل في ذهان »الاستسهال«، وهو وان ارتبطت بالآفة الأولى، من حيث أن المسلم راح يبحث في محاكاة الآخر، وانسياقه تحت ضغط »تقليد المغلوب للغالب«، في الحلو والمر وما يحب وما يكره، إلا أن لهذه الآفة ميزة خاصية أخرى، تتمثل في مركب النقص، ومنه أصبحت الأرض التي يقف عليها متحركة، وكل شيء قابل للمراجعة والشك، وقابل للاجتهاد وتعسف التفسير والفهم.. في مطلع العشرينيات من القرن الماضي، لم يكن طه حسين عميدا للأدب العربي، ولا أديبا مشهورا، ففي ذلك الوقت كانت الساحة الفكرية والأدبية في مصر، تعج بأسماء كبرى سواء في الأدب أو السياسة، واصدر طه حسين في سنة1924 كتابه »في الشعر الجاهلي«، بناه على نظرية قال بها كاتب يهودي هو »مارجليوت«، زعم فيها أن الشعر الجاهلي منتحل، وأن شعراء العصور الإسلامية التالية هم قائلوه، وزاد الدكتور طه حسين على ذلك، وربما كان الكتاب سيمر دون ضجيج يذكر، لكن جاءت ردود مصطفى صادق الرافعي، ومصطفى الغمراوي، والأزهر الشريف، فطار الكتاب في الآفاق واشتهر صاحبه.. بعد ذلك بسنتين، كتب شيخ أزهري كتابا آخر، هو »الدولة في الإسلام«، وكاتبه هو الشيخ علي عبد الرزاق، وفي حديث عن علمانية الدولة الإسلامية، ومرة أخرى جاءت الردود وتحرك الأزهر، واشتهر الكتاب والفرق بين الكاتبين أن الشيخ على عبد الرزاق التزم الصمت، أما طه حسين فأعاد نشر كتابه تحت مسمى آخر هو »في الأدب الجاهلي« مع تعديلات، وحذر في طرح الأفكار.. وفي مطلع الخمسينيات، كان المرحوم خالد محمد خالد شابا مغمورا، حديث التخرج من الجامع الأزهر، ويروي في مذكراته »قصتي مع الحياة«، قصة أول كتاب ألفه وهو »من هنا نبدأ«، والذي خرج في طبعة محدودة، قام هو نفسه بتوزيعها على المكتبات، ولم يلق الكتاب رواجا، فطلب من أحد معارفه أن يكتب فيه نقدا، فجاء النقد قاسيا وبكلمات تجاوزت الجرعة، تلحق بالكاتب أوصاف الزندقة والخروج عن الدين، وتحركت النيابة وتدخل الأزهر، والكتاب في موضوعه، على نهج كتاب الشيخ علي عبد الرزاق، واشتهر الكتاب وطار اسم صاحبه في الآفاق.. أنا شخصيا قليل المعرفة بالزاوية العلوية، وأجهل تماما اسم أمينها العام »المغترب«، فالرجل فيما يبدو ليس عالم دين ولا مفكر، لكن الجدل الذي حصل، حول مضمون بعض ما جاء في كتاب نشره ب»الفرنسية«، ربما يكون »خبطة« العمر لصاحبه، إذ حقق له حضورا إعلاميا لم يكن يتوقعه، خاصة وأنه كالمرات السابقة استدعى آراء سياسيين وعلماء دين وصحافيين.. ولنكن واقعيين، من كان سيقبل على كتاب موضوعه "التصوف"، وكتب باللغة الفرنسية، كم عدد النسخ التي ستباع منه لو لم تثر حوله هذه الضجة، بل كم من أحد سيسمع به وبمؤلفه؟ وهل الموضوع فعلا موضوع اجتهاد فقهي، والقضية محسومة من الناحية الفكرية، فالإسلام يحظر التشخيص، وتشخيص الأنبياء والقادة سدا لذريعة التقديس والعبادة، فعبادة الأوثان بدأت من هذا الطريق؟ ثم إن العقيدة الإسلامية، ترتقي بالعقل الإنساني إلى أعلى وظائفه، وهي وظيفة التجريد المبني على إعمال العقل بالنظر والتفكر، والمبادئ العامة للعقل ممثلة في مبدأ السببية والغائية وعدم التناقض، وقد أحصى المرحوم عباس العقاد في كتابه "التفكير فريضة إسلامية" أكثر من ثلاثمئة آية، تدعو إلى التفكر والتدبر، وتخاطب ذوي النهى وأولي الألباب وذي حجر، أما التجسيم والتصوير فهو من شغل العقل البدائي الذي لا يتعاطى إلا مع المجسم والمادي، أما الاحتكام في موضوع الاجتهاد ففي غياب النص، وفي قضايا ضاغطة للحيلولة دون تعطل مصالح الأمة، ولا مجال له في قضايا هي أقرب للترف الفكري..