إن الشرعية ثابتة ودائمة بينما المشروعية ظرفية ومتغيرة، فالمشروعية وسيلة قياس فعالية الشرعية، وعلى هذا الأساس يتحجج الحكام بالشرعية ويتحجج الشعب وأحزاب المعارضة بالمشروعية، لكن التمسك بالمشروعية يؤدي بالشعوب إلى تغيير الحكام مثل تغيير الملابس. فجّرت الأزمة المصرية على الصعيد العربي تحديدا النقاش حول" مسألة الحكم " في البلدان العربية، من خلال محاولة التفريق بين الشرعية والمشروعية وأيهما أحق وأولى بإبقاء الحاكم في الحكم: الشرعية أو المشروعية؟ الشرعية أهم من المشروعية منذ القدم عرفت شرعية الحكم عدة مصادر، منها " الحق الإلهي " و" حق الوراثة " و " الشرعية الثورية " وغيرها، لكن حاليا ومع ازدياد المطالب الديمقراطية هناك مصدر واحد للشرعية إنه " صناديق الإنتخابات "، فهي التي تمنح الشرعية وهي التي تنتزعها. أما المشروعية التي تعرف على أنها " الرضا الشعبي عن الحاكم" فهي لم تعد ممكنة 100 بالمئة في عصرنا هذا، لعدد كبير من العوامل، وإذا تم الإحتكام للمشروعية على حساب الشرعية فهذا يقودنا إلى ضرورة تغيير الرؤساء والحكام في كل شهر، وهذا غير ممكن واقعيا. وهكذا فإن " الشرعية هي وسيلة لجعل السلطة دائمة ومستقرة " أكثر من المشروعية التي تعتبر درجة قياس مدى فعالية الشرعية. في أوقات سابقة كان ممكنا لأي رئيس أو حاكم أن يصل إلى الحكم عن طريق انقلاب عسكري أو عن طريق انتخابات شكلية مزّورة، ثم يقوم باكتساب رضا الشعب أي المشروعية بفعل بعض الإنجازات أو المواقف. لكنه يبقى من الناحية القانونية والدستورية غير شرعي. وغياب الشرعية قد يعرّض نظام الحكم إلى انقلاب آخر محتمل أو إلى ثورة أو إلى تمرد شعبي. لذلك فإن الشرعية هي أهم من المشروعية. وإذا تمكّن الحاكم من تحقيق المشروعية عن طريق الشرعية فذلك أفضل، لأن الشرعية التي تأتي عن طريق الصناديق قد تكسب الحاكم المشروعية وتقويه خاصة إذا التزم ببرنامجه الإنتخابي واجتهد في تطبيقه على أحسن حال، لكن الحاكم قد يعجز عن تحقيق وعوده والتزاماته وبالتالي اكتساب الرضا الشعبي بسبب عدة عوامل: ركود اقتصادي، ارتفاع البطالة، أزمة تعرفها البلد، وغيرها، لكن تراجع المشروعية لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يعصف بالشرعية. وهو ما تعرفه بلدان الديمقراطيات الغربية حيث تبين عمليات سبر الرأي تراجع شعبية بعض الرؤساء بمعنى تراجع نسبة المشروعية، لكنه لم يحدث أن حدث انقلاب عسكري على الشرعية. الشرعية ثابتة والمشروعية متحوّلة إن الشرعية تعني أن الرئيس الحاكم أو النظام القائم هو أكثر ملائمة لجميع شرائح المجتمع، لذلك فهي ثابتة ودائمة، بينما المشروعية متغيرة ومؤقتة، وعلى هذا الأساس فهي مثل البورصة تصعد وتهبط، ومثل الزئبق ترتفع ثم تنزل. وهي قياس يوجه الحاكم وينبهه بأن شعبيته تراجعت بسبب سياسته أو مواقفه وأن هذا سيكون على حسابه أو حساب حزبه في الإنتخابات القادمة، ولا يعني تراجع الشعبية وجوب استقالة الرئيس أو تغييره بالقوة. إن المشروعية عادة ما ترتكز على فكرة القوة، وتستمد شرعيتها من " القوة " خاصة العسكرية. بينما الشرعية تستمد قوتها من القانون والدستور وخاصة من الشعب عن طريق الإنتخابات باعتبارها أهم مظهر ديمقراطي لممارسة الحكم، وبهذا فإن الشرعية تؤسس لنظام حكم مستقر، بينما تعجز المشروعية عن القيام بذلك. وعندما يكون الحاكم شرعيا، فإن مصادر الشرعية مثل الدستور تجعل الفعاليات السياسية جميعها حتى المعارضة منها خاصة للشرعية، بينما لا تتمتع المشروعية بسلطة الإخضاع إلا باللجوء إلى القوة والترهيب والإعتقال والقمع، وهذا ما عرفته البلدان العربية تحديدا منذ ميلاد الدول الوطنية عقب موجة الإستقلال التي بدأت نهاية الخمسينيات. وعلى هذا الأساس يتحجج الحكام بالشرعية ويتحجج الشعب وأحزاب المعارضة بالمشروعية. وهذا ما حدث في مصر. فالشعب يهمه أن يرضى عن الحاكم والنظام السياسي القائم، بينما الحاكم يهمه أن يكون شرعيا حتى لو لم يرض عنه الشعب. أي أن الشرعية حق للحاكم ، بينما المشروعية واجب. صراع الثنائيات في بلدان التحول الديمقراطي عادة ما تحدث الأزمة بين الشرعية والمشروعية في البلدان التي هي على طريق التحول الديمقراطي، لأن التحول ليس عملية سهلة ، إنها صعبة ومعقدة، وتتطلب تغييرا ثقافيا وذهنيا على صعيد جماهيري وخاصة عند النخب السياسية.والمجتمعات على طريق التحول عادة ما تتميز بالثنائيات المتصارعة حيث تعمل كل واحدة على إفشال الأخرى. وما يحدث في مصر وسوريا وغيرهما هي حرب الثنائيات وهي التي تسببت في الأزمة. والثنائيات نجمت عن حكم دكتاتوري وغير ديمقراطي لسنوات طويلة كان خلالها المجتمع يحكم بطريقة غير شرعية وغير مشروعية، لأن الأنظمة غير الديمقراطية ليس فيها وسائل قياس الرأي العام بل لا تسمح بها بتاتا. وبنمو الديمقراطيات في السنوات الأخيرة خاصة منذ سقوط جدار برلين عام 1989 وسقوط الإتحاد السوفياتي وتحول دول أوروبا الشرقية نحو الديمقراطية ونجاحها في تطبيقها، أصبحت الرغبة في " شرعنة " أنظمة الحكم في البلدان العربية التي استمدت شرعيتها من مصادر غير " انتخابية " مثل " الشرعية الثورية " و" شرعية الوراثة " مطلبا جماهيريا، لكنه مطلب تتم مواجهته بقوة من طرف الأنظمة التقليدية التي حكمت بدون شرعية لسنوات طويلة عن طريق الأحزاب والجمعيات التي تسير في فلكها. أزمة المشروعية إن الحاكم أو النظام السياسي في الوقت الراهن - مع نمو العولمة وتحكم الشركات العابرة للقارات في شرايين الحياة الإقتصادية والسياسية للدول والشعوب - أصبحت تفقد " المشروعية " بسرعة، وهو ما تبينه عمليات سبر الرأي ، حيث عادة ما تملي هذه الشركات على الدول النامية سياسيات اجتماعية واقتصادية وثقافية مغايرة للبرامج الإنتخابية. وفضلا عن ذلك فإن حاجات الناس تتطور بسرعة إلى درجة يصعب على الحكام تلبيتها بشكل كامل وبشكل سريع، وهو ما يتم التعبير عنه بالإضرابات والاحتجاجات والمسيرات وغيرها، وهذه الأخيرة ليست سوى تعبير ديمقراطي عن تراجع أو فقدان المشروعية. وهذه وتلك ، تعني أن الواقع يحتم علينا التمسك بالشرعية أكثر من المشروعية لأن الأولى ثابتة والثانية متحركة، وإلا سوف نلجأ لتغيير الحكام والمسؤولين كما نغير الملابس. وربما هذا ما يفسّر مسارعة دول الخليج إلى تقديم مساعدات ضخمة جدا للسلطة الإنقلابية في مصر تقدر ب 12 مليار دولار ( 5 مليار من السعودية، 4 مليار من الكويت، 3 مليار من الإمارات)، كوسيلة لمساعدة الذين أطاحوا بالرئيس الشرعي محمد مرسي على تحقيق المشروعية بمحاصرة الإنهيار الإقتصادي المحتمل وما ينجم عنه من فقدان للمشروعية بعد فقدان الشرعية. القضية الآن أنه في البلدان الديمقراطية ، عندما تستمر عملية تراجع " المشروعية " كما تبينه عمليات سبر الرأي، تتراجع الحكومات عن قراراتها أو تلجأ إلى الإستقالة، أو تلجأ إلى حل البرلمان والبحث عن شرعية جديدة ومشروعية متجددة للحفاظ على استقرار وأمن المجتمع. وعندما يحدث الصراع بين الشرعية والمشروعية فهنا تكون البلد في أزمة حقيقية كحالة مصر اليوم. لكن الشرعية لا تزول إلا بشرعية جديدة ، والشرعية في القرن ال 21 ليست سوى شرعية الإنتخابات. وعليه ينبغي المحافظة على الشرعية حتى لا تلجأ النخب السياسية المعارضة من أجل نزع المشروعية إلى إرهاق الحاكم بطلبات سياسية كثيرة ومعقدة من الصعب تنفيذها، ثم محاصرته بالمسيرات والتجمعات والإعتصامات ووسائل الإعلام المختلفة. الشرعية : عقلنة الفعل السياسي إن المجتمعات الغربية تتحكم فيها "عقلنة السياسة وليس شخصنتها" على حد تعبير عالم الإجتماع الألماني ماكس فيبر ، حيث تتحكم " البيروقراطية " على حد تعبيره ( بمعنى المؤسسات) في العمل السياسي، وليس نزوات الأشخاص. وعقلنة السياسة ليست سوى " الشرعية القانونية " لممارسة السلطة. والحقيقة أن جميع دول العالم تعيش أزمة شرعية ومشروعية، فالديمقراطية أحيانا توصل حاكم انتخبته أقلية، بالنظر إلى نسبة المصوتين في العملية الإنتخابية وهي ظاهرة عالمية، فإذا كان عدد المصوتين 70 بالمئة وهي أحسن حالة في البلدان الديمقراطية، فهذا يعني أن 30 بالمئة لم يصوتوا، وإذا فاز الرئيس بنسبة 51 بالمئة من ال 70 بالمئة المصوتة، فهذا يعني أنه يحكم البلد بفضل انتخاب أقلية عليه، وبطريقة شرعية، وقد تتولد عن هذه الشرعية أزمة مشروعية. وعندما يفقد الحاكم مشروعيته ينبغي إزاحته بنفس الشرعية التي قادته إلى الحكم. وعندما يتم الإعتداء على الشرعية تولد الفوضى. وفي المحصلة، إن الفكر السياسي البشري لم يتمكن لحد الآن من انتاج نظام سياسي مثالي للحكم، وإذا استمرت الحرب بين الشرعية والمشروعية مثلما يحدث في مصر وسوريا فإن الفوضى هي التي ستسود، وفي هذه الحال فإن ميلاد " نظام دكتاتوري عادل" أفضل بكثير من الفوضى أو من ديمقراطية تخلق عدم الإستقرار والإنقسام الإجتماعي الخطير.