أيُّها الصديق العزيز عبد الوهاب الليلة تنقضي أربعون ليلة عن غيابك عنا ،و لكنك رغم هذه الغيبة الأبدية مازلت حاضرا بيننا بصورتك البهية ،و موجودا معنا ببسمتك الملائكية ، باديا بشهامتك و مطلا علينا بسمو نفسك و ب )رجلتك ( الجزائريةالأصيلة ، بطيبتك التي تتجاوز كل الحدود وبوفائك الذي لا وصف له في قواميس مختلف اللغات و من بينها اللغة العربية التي كنت تعشقها ، بصدقك في صداقاتك و في وفائك لمبادئك و مواقفك التي لا غبار عليها ،و في وطنيتك التي لا مساومة فيها. و قد قررتُ يا صَدِيقي في وقت يَنْدُرُ فيه الأصدقاء الخلص خلال هذا الزمن الذي يتقلب فيه الناس بألف لوْن و لَوْن أنْ أَكتُبَ إليك هذه الرسالة و أنتَ هناك في دار البقاء الأبدي بعد أن تركتنا دون وداع وقد كنا على موعد مسبق مَعَكَ خلال صائفة هذا العام مثلما تعودنا على الالتقاء كلَّ صيف مُذْ أصبحتَ سفيرًا للجزائر في العاصمة اليمنية صنعاء قبل أقلَّ من أربعة أعوام مضت ، و لكنها إرادةُ الله الذي لا رَادَّ لقضائه ، فقد فضَّل المولَى جَلّ شأنُه و عَلاَ أن تستريح نهائيا من تعب كلِّ تلك السنوات التي قضيتها بين بلدك و بين القاهرة و تونس و بغداد و أخيرا صنعاء مدافعا شَرِسًا عن كثير من القضايا التي لم تكن فيها مجرد دبلوماسي تقليدي يمثل بلده، بل كنت مناضلا و ثوريا صلبا و جزائريا وطنيا فحلا يستميت في دفاعه الشرس من أجل مختلف القضايا العادلة التي آمن بها و كرّس حياته من أجلها. و كم كنت تقلق بمواقفك التي لا تعرف المساومة و اللفّ و الدوران كثيرا من المسئولين سواء في بلدك أو في مختلف كل العواصم التي اشتغلت بها منافحا و مدافعا عن قول الحقيقة التي لا يقبلها بعضهم، بل يحاربون أمثالنا من أجلها بكل أشكال الدسائس و المؤامرات و النميمة و حتى بشراء الذمم و بأشياء دنيئة خسيسة يخجل الشرفاء حتى من الإتيان على ذِكْرِها لأنها تتنافى و الإِبَاء و الشَّهامة التي جُبِلُوا عليها . يشهد الله وحده و أبنائي وزوجتي أنه منذ بلغني نبأ رَحِيلكَ المُفْجِع المبكر عنّا يا عبد الوهاب و أنت ما تزال في بداية العطاء في تلك الصبيحة المحزنة المفجعة من يوم الإثنين 20 يناير 2014 حاضرا أمامي و حيثُ الدمع الهَتُون لم يفارق مقلتي و حيث القلب يكاد يتقطع على فراقك يا واحدا من أعز الأصدقاء و أطيب الرجال . كانت صورتك الجميلة و طلعتك البهية تحضرني كلما تذكرت صوتك و هو يأتيني من هناك عبر هاتفك المنقول الذي كان لا يكادُ يتوقفُ عن التواصل معي منذ التحاقك هناك بعاصمة أرض الحكمة اليمنية صنعاء في سبتمبر من عام 2009 . و كنتُ يا عبد الوهاب حينما لا أسمع صوتك لمدة يومين أو ثلاثة أتساءل مع نفسي ما به لم يهتف هذه الفترة كلها ؟ و كأن تلك الفترة القصيرة كانت بالنسبة لي عبارة عن شهور إن لم تكن سنوات. كنتُ وقتها أقفُ متذكرا ما كانت تردده على مسامعي والدتي الكريمة الحاجة فاطنة شفاها الله و أطال عمرها و هي تنقل لي كل مرة عندما أهُمُّ بالسفر عبارة سمعتها على لسان إحدى قريباتها و هي امرأة بدوية أصيلة كانت تعيش في ربوع بادية حاسي الدَّلاّعة بولاية الأغواط كانت تلك المرأة تقول لابنها محمد و هي تودعه في تلك الصبيحة : يا ولدي محمد غدا يكون قد مَرَّ على فراقك لي يومان كاملان !! تقول تلك المرأة ذلك، و ابنها محمد لم يكن قد ترك أمه و لم يكن قد سافر بعد !! فقد كانت تلك الأم الحَنُون الرَّءُوم تحسب الغد كثاني يوم على فراق ابنها رغم أنه ما يزال عندها بعد !!.. و لَكَمْ كنتُ يا عبد الوهاب أتساءل أكثر من مرة عن سبب غيابك، فإذا بالهاتف يرنُّ و إذا بصوتك الهادئ يأتيني كأنه الشاي الصحراوي المنعنع الذي يَتملَّكُنِي على الدوام لينزع عني غشاوة الدوخة في لحظة وجع الدماغ. كان صوتُك أيها الصديق الوفي الودود يزيل وقتها عني حُرقة الشوق إليك و حيث كان بُعْدُ المسافة عن أرض اليمن و الوضع الأمني هناك يَحُولُ دون سفري إليك و زيارة تلك الربوع التي سبق أن حدثني عنها كثير من الأصدقاء الراحلون رحمهم الله جميعا و الأحياء أطال الله أعمارهم و مدهم بالصحة و العافية و من بينهم الصديق الدكتور محمد العربي ولد خليفة رئيس المجلس الشعبي الوطني و الراحلان العزيزان الصديقان مولود قاسم و بشير خلدون اللذين كانا ينويان في مطلع الثمانينيات عقد ملتقى جزائري يمني حول التشابه الكبير اللذين لاحظاه بين بعض اللهجات الجزائرية المنبثقة من اللغة الأمازيغية و خصوصا القبائلية وبين بعض اللهجات في اليمن و خاصة في منطقة حضرموت التي كانت شاهدة على واحدة من أقدم و أعظم الحضارات في العالم حيث سد مأرب العظيم، و هي مسألة أكدها لي لاحقا الأستاذ سي محمد فضيل أطال الله عمره حيث كان حينها مديرا عاما للمجاهد الأسبوعي و قد كان شاهد عيان في تلك الرحلة مع المرحومين مولود قاسم و بشير خلدون عما رآه و سمعه من تشابه ، و كانت تلك المسألة بالذات هي التي حثَّتِ المسئولين الجزائريين و اليمنيين معا على التفكير في عقد ملتقى بين البلدين الشقيقين ، و لكن مشروع ذلك الملتقى تَبَخَّر مثلما تبخر مشروع الوحدة التي كانت تلوح في الأفق بين الجزائر و ليبيا في النصف الثاني من ثمانينيات القرن المنقضي . و الأكيد أن مثل تلك المشاريع كانت واحدة من الأسباب التي فجَّرت أحداث أكتوبر 1988 أو ما يسميه بعضهم بالربيع الجزائري الذي عمل هؤلاء سرا و علنا على تجسيده مبكرا لزعزعة استقرار و أمن الوطن و محاولة تكسير جبهة التحرير الوطني التي كانت الدرع الذي تَكسَّرت أمامه كل تلك المحاولات اليائسة التي كانت تستهدف الدولة الوطنية . ثم كُنْتَ أيها الصديق عبد الوهاب تتمنى أن أزورك في صنعاء لو أن الظرف الأمني كان يسمح بذلك، و كُنتَ تقولُ لي: لِتكُنْ زيارتك عملية لإلقاء محاضرة حول موضوع تختاره بنفسك و ليست للسياحة فقط. و أذكر أننا اتفقنا ذات يوم على أن يكون موضوع المحاضرة المقترحة حول المجتمع المدني في الجزائر بعد أن لاَحَظْتَ ببصِيرتك الحادة حيث كُنتَ تتابع بدقة ما يجري في الجزائر أنني ألقيت أكثر من محاضرة حول هذا الموضوع بالذات في عدة جهات من الوطن ، و لكن الوضع الأمني مرة أخرى في اليمن الشقيق و الأقدار لم تسمح بذلك للأسف . هل تعرف يا عبد الوهاب أنني من فرط الحُرقة التي تصيب قلبي بين الحين و الحين على فراقك المفاجئ لجأتُ إلى موقع غوغل و نسختُ منه صورة بهية لك من بين بعض صورك الجميلة ثم وضعتُ تلك الصورة على جهاز الكمبيوتر الخاص لأتأملها باستمرار خصوصا في الليل عندما أتسلل إلى مكتبي أثناء الاطلاع على بعض المواضيع أو متابعة المستجدات الوطنية و الدولية أو لكتابة مقال أو تدوين أفكار أو كتابة محاضرة أو مداخلة . و كنتُ في كل مرة أشاهد صورتك إلا و أتذكر كذلك إمام الجزائر الكبير الراحل عبد الحميد بن باديس رحمه الله عندما أهدوه أول صورة له ، فراح يتأملها و هو يبتسم ثم ارتجل بيتين جميلين من الشعر من وحي تلك الصورة جاء فيهما : سَينْحلُّ جثماني إلى الترب أصلُه و تلتحق الورقا "1" بعالمها الأسمى و ذي صورتي تبقى دليلا عليهما فإنْ شئت فاستنطق الرسما إنه لن يبقى لنا من شيء في هذه الدنيا يتذكرنا به الناس و خصوصا من يحبوننا سوى مآثرنا و أعمالنا الجميلة و صورنا . كنتُ أيها الصديق أغرق في ذكرياتي الجميلة معك من خلال نقاشاتنا المتعددة حول مختلف المواضيع السياسية خصوصا، و كنت ألحظُ على الدوام مدى اطلاعك و متابعاتك الدائمة للأحداث و المستجدات وطنيا و دوليا و سَعَةَ أفقك فأتمتع بتحليلاتك الصائبة و نظرتك الدقيقة رغم ما كان بيننا في بعض الأحيان من اختلافات في وجهات النظر ، و لكن تلك الاختلافات لم تكن لتُبْطل وُدَّنا و احترامنا لبعضنا البعض و إلا ما كان للتواصل أنْ يستمر و خاصة خلال الأزمة التي خيمت على حزب جبهة التحرير الوطني منذ 2010 و بالأخص في أعقاب الانتخابات التشريعية حيث كنتُ أشعرُ أنه بالرغم من تباين وجهتي نظرنا فإنك لم تكن راضيا عما وقع من تهميش و إقصاء لكثير من الكفاءات و المناضلين الكاريزميين في الجبهة الذين تحالفتْ عليهم الدهماء و المال الفاسد و الرداءة فأجبرتهم على التقاعد المبكر و هم في أوج العطاء . كم كُنْتَ تتأسف أكثر من مرة و تقولُ لي يا صديقي : لو أنني كنتُ هنا بالجزائر لكنتُ قد فعلت كذا و كذا لتقويم بعض الاعوجاج و السلوكات، و لكنني كنتُ أقول لك بصدق الصديق : و ماذا كُنْتَ تفعل يا عبد الوهاب و قد صُّمتْ آذان البعض و تغيروا مائة و ثمانين درجة عما عرفناه عنهم من قبل. و أذكر أنك عندما جئت للجزائر في صائفة عام 2012 خلال العطلة أعطيتني بعض الحق فيما كنتُ أقولُهُ لك عبر الهاتف بعد أن لاحظتَ بعينيك ما وقع و ردود الأفعال التي كانت تفعل فِعْل النار في الهشيم بالحزب العتيد .. و هل تعلم يا عبد الوهاب أن صهرك المسكين خال أبنائك و الذي جاءك باكيا من الطارف ليحضر جنازتك و هو محمول على كرسي متحرك نتيجة فقد رجليه ظل يبكيك بكاء مرا غير منقطع لمدة أسبوع كامل إلى أن دخل المستشفى في حالة غيبوبة ، ثم ها هو ذا يلتحق بك بعد عشرة أيام حزنا على فراقك . صديقي عبد الوهاب : لم تصلني منك طيلة الأيام الماضية أية مكالمة هاتفية كما توقعتُ ذلك في مقالي السابق عنك و المعنون ب ) من بعدك يهتف لنا أيها العزيز( الذي نشرته في جريدتي صوت الأحرار و الجزائر نيوز و عبر موقعي في الفيسبوك . غير أن مكالماتك الهاتفية كلها و حواراتنا و نقاشاتنا الطويلة مرفوقة بصورتك البهية ظلت تزورني في عديد الأماكن التي جمعتنا أو تلقيتُ فيها مكالماتك ، كنتُ أراك و أنت تنفثُ في السيجار عبر السيجار كأنك تحمل هموم الوطن كلها على كاهلك و أنا أنصحك حينها بين الحين و الآخر كما نصحك الكثير من الأصدقاء أن تقلع عن " عزرائيل " التدخين أو أن تقلل منه على الأقل خصوصا في تلك السهرات الرمضانية التي كانت تمتد بنا أحيانا إلى الفجر بعد أن تكونَ قد أديت صلاة التراويح التي كنتَ تحرص عليها حرصَ المؤمن الورع كل ليلة، و كنتُ حينها أعود لأذكرك في كل ليلة تقريبا بتلك النصيحة ،و أضيفُ في شيء من الاستفزاز الأخوي إنني شخصيا قد أقلعت عن التدخين منذ أزيد من ربع قرن و أنني أمارس الرياضة بشكل يكاد يصبح يوميا كلما سمحت لي الظروف بذلك، بل إنني أسرق من وقتي للرياضة ليس فقط للتخلص من النيكوتين الملعون و لكن لأنام بهدوء في الليل و لكي أنسى التعب المتراكم منذ سنوات و أتناسي غدر بعض من كنا نتوهم صدقهم و صداقتهم . و كُنْتَ تبتسم كعادتك و قد عرفتَ قصدي ، ثم تحاول أن تدحض فكرتي المسبقة بأن الله هو وحده من يقبض الأعمار وهو الذي يحي و يميت و ليس السيجار كما يشاع علميا . ثم تردد: تعددت الأسباب و الموت واحد . معذرة أيها الصديق الوفي عبد الوهاب بوزاهر إنْ أنا ثرثرتُ عليك و أزعجتُك و أنتَ هناك في استراحتك الأبدية عند بارئك، و لكنني و من فرط حبي لك عاهدت الله ألا أنساك مثلما ظللتَ أنتَ بالذات وفيا على الدوام مذ عرفناك ،تتذكرُنا جميعا واحدا واحدا سواء كنا من عائلتك أو من أصدقائك رغم مهامك الكثيرة ، حيث كنتَ تَهْتفُ لنا سائلا عن أحوال البلد و عن أحوالنا أو ترسل لنا حتى العسل اليمني الصافي صفاءَ قلبك الطيب . إنني أيها الصديق الوفي أتوجه في ختام هذه الرسالة إليك بدعوة كافة الأصدقاء الذين عرفوا فيك صفات الإيمان و الرجولة و الشهامة و الصدق و المروءة والوفاء و الطيبة أن يكثروا من الدعاء لك ليتغمدك الله برحمته الواسعة و يُنزل السكينة و الطمأنينة على جميع أفراد عائلتك من أم رءوم حنون و زوجة وفية و أبناء و أشقاء و أقارب ومن أصدقاء مخلصين . تحياتي إليك أيها الصديق الودود ، و ثق أنني سأبقى وفيا لروحك فمثلما كنتَ تتصل بي باستمرار فإنني سأبقى بحول الله على اتصال دائم بشقيقك الوفي محمد السعيد إلى أن ألقى الله و التحق بك . "1"الورقا بمعنى الروح . و السلام عليك و رحمة الله تعالى و بركاته .. صديقك محمد بوعزارة