الآباء يستعجلون أبناءهم حتى يكبروا ويذيقونهم من صعاب الحياة ألوانا حتى يشتدّ عودهم ويشركوهم ما يواجهون من متاعب ويقاسمونهم عذاب المعذّبين في أرضهم، او أن يقدموا لهم كل شيء على طبق فلا يجربوا ولا يخوضوا معارك الحياة. يدرك الأبناء حينها أن الطريق التي يسيرون فيها حُفّت بالعقبات وبالمكاره، وأن عليهم أن يعينوا أبائهم عليها، أو العكس طبعا، وحتى يتمكّنوا من ذلك يجب أن يكونوا مثلهم ، أن يشبهوهم أو يتشبهوا بهم، لا فرق..! لا شيء يُترك للصدفة والعبث، غير أن الطبيعة تُتيح لآباء أن يمنحوا لأبنائهم أشياء أخرى تعينهم على الحياة، وهي أن يعيشوا طفولتهم وأن ينهضوا في الدنيا وفق ما خبروا لا ما خبر آباؤهم الأوّلون..! لا شيء إلاّ أن يعرف الأبناء تباريح الزمن بذواتهم وتصوراتهم وليس بتصورات آبائهم، بمواجهة الحياة حسب استعداداتهم الفطرية وملكاتهم وليس حسب وصايا آبائهم ومحاذيرهم. قائمة »كذا وكذا« في لا تفعل ولا تقل كثيرة، ولكنها في افعل وقُل »كذا واحدة«، الأمر أخطر من مجرّد التنبيه أو التحذير، إنه بالتحليل النفسي البسيط الإصرار من الآباء على أن يكون الأبناء آباء لا أبناء..أن يكونوا هم أنفسهم وليسوا أشخاصا آخرين، مثلما كانوا هم ودون أن يدركوا ذلك أجدادا.. ! المشكلة أعمق وتنحصر في المجتمع وظاهرة الأبوية التي وضعت متاريس من إسمنت مسلّح حتى لا يتحرر الأبناء ويستقلّوا بحياتهم وزمانهم وشؤونهم، فيحققوا ذواتهم لا ذوات آبائهم، بتعبير هشام شرابي في كتابه »النظام الأبوي« لا شيء نفعله لتحرير الفهم والإرادات وتغيير أنساق سلطوية قهرية وأبوية شاخت ولكنها لم تمت، في العائلة والمجتمع، وفي الدولة ومؤسساتها الحاكمة.! بهذا التواطؤ البريء وغير البريء، ينتج التخلف بالحرص على نفس الطبائع و»فلسفة« الحياة فنفرح بأن نلد آباءنا وأجدادنا ونقيّدهم في السجلات والدفاتر العائلية، مع أننا لم نلد أجيالا جديدة أبدا.. هم مجرد أبناء من حقهم أن يختبروا حياتهم حتى يصيروا آباء.. أما بعد: "على قدر حلمك تتسع الأرض" محمود درويش