ظهور المسؤول الجديد على رأس دائرة الاستعلامات والأمن، طغى بشكل واضح على عناوين وسائل الإعلام المكتوبة والقنوات الخاصة، وشكل فرصة لإثارة نقاش ساخن حول ما يسمى بمشروع الدولة المدنية الذي تزامن مع عودة النقاش حول التعديل الدستوري، فيما يشير الكثير من المراقبين إلى صعوبات كبيرة ستواجهها البلاد في المستقبل على خلفية الانهيار المتواصل في أسعار النفط، في وقت تعاظم التهديد الإرهابي في دول الجوار، والمخاوف بشأن التدخل العسكري في ليبيا، بعد إعلان الرياض تشكيل حلف عسكري من دول عربية وإسلامية. اختلفت القراءات والتحاليل حول الظهور المفاجئ للمسؤول الأول على دائرة الاستعلامات والأمن »الدياراس« اللواء عثمان طرطاق، بين من يهون ومن يعتبر ذلك حدثا جلل ينطوي على رسائل كثيرة لها علاقة مباشرة بالتغيرات التي عرفتها البلاد مؤخرا والقرارات التي مست جهاز المخابرات، فصورة سي البشير كما يسميه المقربون منه، والذي كان في الاجتماع الذي احتضنته العاصمة وخصص لتأسيس جهاز الأفريبول، أي الشرطة الإفريقية، لم يكن بريئا ولم يكن تركيز عدسات الكاميرا عليه صدفة، ويعد هذا الظهور الذي تم بارادة الجهاز والسلطات العليا في البلاد على ما يبدو، سابقة في البلاد، بحيث سمحت بتجاوز تلك الصورة النمطية التي كرسها سابقه الفريق محمد لمين مدين، المعروف باسم »الجنرال توفيق« الذي حكم الجهاز من عام 1990 إلى 2015، إذ على مدار 25 عاما حرص على عدم الظهور، فرغم مشاركته في أنشطة رسمية، فإن التعليمات كانت توجه للصحافة بعدم تصويره، ولم يتعرف الجزائريون على صورته الحقيقية إلا يوم تقاعده. ويعتبر طرطاق من القيادات القوية المعروفة في جهاز الاستخبارات منذ التسعينيات، شغل في وقت سابق مديرا لجهاز الأمن الداخلي، وقد أحاله الجنرال توفيق للتقاعد في عام 2013، ثم عينه بعد عام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مديرا للأمن في الرئاسة، ثم مديرا للمخابرات في 13 سبتمبر الماضي، وقدمته العديد من التحاليل بصفته الرجل المناسب في نظر رئيس الجمهورية لقيادة دائرة الاستعلامات والأمن خلال هذه المرحلة الانتقالية التي يمر بها الجهاز بعد إدخال العيد من التعديلات على صلاحياته وإحالة عدد من قياداته على التقاعد، وعلى رأسهم المسؤول الأول السابق على »الدياراس« الفريق محمد لمين مدين. الظهور قائد المخابرات العلني، قد يعني الكثير إذا ما تم ربط ذلك بالهالة التي أحيطت بسابقه، فقد كان مجرد ذكر »الجنرال توفيق« ناهيك عن نقل صورة عنه يندرج ضمن الممنوعات، وهو ما يفسر الهالة التي أحيطت المسؤول السابق على الجهاز قبل إحالته على التقاعد، مع هذا كانت الصور القليلة التي نشرتها وسائل الإعلام للرجل ليست جديدة، ومن هذا الباب قد يشكل طرطاق فاتحة لعهد جديد، فظهوره الذي يحمل وفق الكثير من المختصين في قضايا الأمن، رسائل كثيرة أبرزها تلك المتعلقة بوجود إرادة في أعلى هرم السلطة ليصبح هذا الجهاز رغم حساسيته وأهمية المهمة التي يؤديها في حفظ امن البلد داخليا والتصدي للجوسسة ومحاولات المساس باستقرار البلد، للانفتاح الذي يصبح معه القائد الأول على الجهاز مسؤول عادي معروف، وهو انعكاس أيضا لتغيير جوهري في طبيعة المخابرات التي تصبح مؤسسة تؤدي مهامها وفق التدرج المعروف قي اكبر الدول الديمقراطية التي بنت أجهزة استعلامات كبيرة وقوية، لكن ذلك لم يكن على حساب الممارسة الديمقراطية والطابع المدني للدولة. هذا الظهور قد يعني وفق البعض التحول نحو الطابع المدني للدولة، والتخلي عن ممارسات قديمة جعلت البعض يسمي جهاز المخابرات في الجزائر ب »صانع الرؤساء«، حتى أن البعض أصبح يسمي »الدياراس« بالدولة الموازية بالنظر إلى الدور الكبير الذي كان يقوم بها هذا الجهاز في صناعة القرارات المصيرية والهامة. لكن البعض الأخر يرى أن ظهور »سي البشير« لا يعني الكثير، وهو مجرد إجراء شكلي والمهم وفق هذا التصور هو أن يكون بناء الدولة المدنية حقيقة وليس مجرد »خدعة« تستعملها السلطة لإيهام الجزائريين بأن البلد قد تغير وودع ممارسات الماضي إلى الأبد، فلا يهم ظهور مسؤول جهاز المخابرات أو عدم ظهوره، فما يهم الجزائريين بالدرجة الأولى هو أن يكونوا على دراية بكل ما يمس امن بلدهم وهناك قضايا كثيرة محاطة بالكثيرة من التعتيم. لا يمكن فصل الجدل الذي أثاره ظهور اللواء بشير طرطاق عن النقاش الذي تعرفه الساحة السياسية، فالاجتماع الذي اشرف عليه رئيس الجمهورية وضم المسؤولين في أعلى هرم الدولة وخصص للتعديل الدستوري، أعاد تحريك النقاش حول الدستور الجديد الذي وعد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بالكشف عنه قبل نهاية السنة الجارية، فإذا كان البعض لا يستبعد تأجيل ذلك إلى موعد آخر بسبب الوضع غير الطبيعي التي توجد عليه الساحة السياسية بسبب الموقف من قانون المالية والميزانية لسنة 2016، و»موضة« الرسائل الموجهة لرئيس الجمهورية، فإن البعض الأخر يرى بأن التعديل الدستوري قد يشكل أداة فعالة تستعملها السلطة لتحويل الجدل الحاصل حول عدد من القضايا الشائكة وجر المعارضة إلى الفضاء الذي سيتولد بفعل مضمون التعديل الدستوري وما يستوجبه من نقاش أيضا حول طريقة تمرير هذا النص عن طريق البرلمان أو الاستفتاء الشعبي أو الاثنين معا. الحقيقة أن الجدل السياسي الحاصل هو انعكاس لحالة خوف غير طبيعية من المستقبل، خوف يتطلب من الطبقة السياسية بذل الجهد من اجل التقارب حول القواسم المشتركة، فالمبادرة التي عرضها حزب الأفلان على شركائه السياسية والحركات والمنظمات الجمعوية لها هدف أساسي هو بناء قوة قادرة على التصدي لكل المحاولات الرامية إلى جر البلاد إلى الفوضى تحت عناوين مختلفة، فالبلد يمر بمرحلة جد حساسة، ففي الوقت الذي تتجه فيه بعض المعارضة إلى مضاعفة الضغط بدعوى أن السلطة لا تتوفر على الإرادة اللازمة لإحداث التغيير، تثار مخاوف أخرى من احتمال سقوط البلد في متاهات الفوضى جراء الصعوبات الاقتصادية التي تولدت عن الانهيار المتواصل في أسعار النفط وتراجع مداخيل البلاد إلى النصف، فقد عرفت البلاد في السابق موجة من الاحتجاجات التي عمت شوارع المدن الكبرى وفي مقدمتها العاصمة، ونجحت السلطة حينها في التصدي لحركة الشارع التي وإن لم تكن لها طابعا سياسيا إلا أنه تم تفسيرها كمحاولات لجر البلاد إلى وحل ما يسمى ب »ثورات الربيع العربي«، وتراجعت حركات الشارع بفعل مضاعفة الإنفاق ولجوء الحكومة إلى سياسة شراء السلم الاجتماعي من خلال تلبية المطالب الاجتماعية المستعجلة وعلى رأسها رفع الأجور وتوفير السكن بصيغ مختلفة. التحدي الذي تفرضه الجبهة الاجتماعية، والتكهنات باحتمال سقوط البلاد في متاهات حركات الشارع، يقابله أيضا تحدي آخر لا يقل خطورة يتمثل في الوضع الأمني المتردي في دول الجوار، فليبيا لا تزال تشكل تهديدا حقيقيا بالنسبة للجزائر، ففضلا عن الحركات المتطرفة، وعلى رأسها المجموعات الإرهابية الموالية لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام »داعش« التي لا تزال تحاول التسلل إلى الجزائر في إطار إستراتيجية التوسع التي يعتمدها تنظيم أبو بكر البغدادي، ووفق أجندة الفوضى التي تستهدف الجزائر، هناك مسألة أخرى لا تقل خطر ا تتمثل في التدخل الأجنبي في ليبيا، ففرنسا التي تسببت في الوضع الذي ألت إليه ليبيا، أشارت إلى إمكانية تدخلها عسكريا في ليبيا، وجاء ذلك على لسان وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان الذي صرح أن تنظيم »داعش« بدأ »يتوغل نحو الداخل« والهدف هو الوصول إلى آبار النفط الواقعة بين مدينتي سرت وبنغازي، مضيفا إنهم في سرت، يعملون على توسيع منطقتهم الممتدة على طول 250 كلم على طول الساحل، لكنهم بدؤوا يتوغلون نحو الداخل، يحاولون الوصول إلى آبار النفط والاحتياطات النفطية«، وقال رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس أن الدول، التي يستهدفها "داعش" ربما تضطر للإسراع بسحق التنظيم في ليبيا، وقال فالس في مقابلة مع إذاعة "وروبا 1"، "حن نعيش مع التهديد الإرهابي، لدينا عدو مشترك هو داعش، وينبغي أن نهزمه وندمره في العراق وسوريا وربما غدا في ليبيا".